المتهم برىء حتى تثبت إدانته، لعل تلك المقولة القانونية الخالدة تفسر دور القضاء فى مجتمعاتنا، فأى متهم يبقى متهما حتى ولو قبض عليه متلبسا حتى يقر قضاء عادل وفى أجواء قانونية عادية اتهامه أو يقرر براءته.
فالقضاء دوره الأساسى هو إقرار العدالة بإثبات التهم أو نفيها عن المتهمين بها، ولنكرر المتهمين بها لا المذنبين بها، فالمذنب متهم ثبت عليه التهمة المدان بها.
وبعيدا عن تلك المبادئ القانونية البسيطة والمعروفة للجميع، فقد هزنى بل جرحنى جرحا عميقا ما حدث للشاب المصرى محمد مسلم فى لبنان، وهو الاسم الذى أصبح حديث الساعة الآن وأصبحت صورته التى تندى لها جبين الإنسانية مثالا لوحشية الإنسان وافتراسه لأخيه الإنسان.
فالجريمة الجنائية التى أدت إلى تلك الجريمة الإنسانية البشعة تتلخص فى أن الشاب المصرى تقدم للزواج من عائلة لبنانية فرفضت تلك الأسرة زواجه من ابنتها فما كان منه إلا أن قتلهم جميعا!!! وهو تصرف بشع وخسيس وجبان من الشاب المصرى فلكل أسرة الحق الكامل فى تزويج بنتها لمن تشاء ودون تقديم أى مبررات مقبولة، إلا أن محمد تصرف ضد العقل والمنطق فقضى عليهم جميعا وبوحشية شديدة!!
ودارت عجلة الزمن بسرعة رهيبة واكتشفت الجريمة وثار أهل المدينة الصغيرة وتشير العلامات لمحمد مسلم ليقبض على الشاب المصرى، ويتم التحقيق معه ثم يطلب منه وفقا لترتيبات التحقيقات العادية والروتينية أن يذهب إلى مسرح الجريمة ليمثلها وهو قرار غبى فى تلك الظروف المحتقنة والمشحونة، وكان أحرى بالسلطات اللبنانية أن تؤجله لليل أو أن توفر قوة أمنية أكبر لحماية المتهم من بطش الأهالى.
لكن أن يقتاد الأهالى الشاب المتهم من الشرطة ويقتلونه ويسحلونه ويشوهونه ثم يعلقوا جثمانه على عامود للكهرباء وسط تهليل وتكبير وتصوير مقزز من الشباب على أجهزة المحمول، فهو ما يثيرنى تماما، فأهالى بلدة كترمايا حققوا لأنفسهم عدالة الشارع وضربوا بعدالة القضاء عرض الحائط.
فحتى لو أثبت أنه مذنب وأنه على خطيئة آدم الأولى فما كان منهم أن يقتلوه تلك الميتة البشعة، ولو قتلوه ما كانوا ليعذبوه ميتا مقتولا، فللميت حرمة وفقا لتلك الشرائع السماوية التى نؤمن بها أو فلنقل آمنا قبل أن تتحول إلى تراتيل نرددها كلمات وحروف دون أدنى فهم لمعانيها ومغزاه.
والحقيقة إننى عجزت طيلة الأمس عن تفسير ما حدث، بل وما يحدث فى وطننا العربى من عنف مبالغ فيه فى كل الأوساط ومن الطبقات، ولكننى وبعد أن هدأت قليلا وبعد أن شاهدت فيديو الحادث، وهو الفيديو الذى لا أنصح أصحاب القلوب الرقيقة بمشاهدته - توصلت إلى نقاط قد تفسر الحادث فى نطاقه الضيق وتفسر العنف الدائر فى المنطقة عامة:
1- إن مخزون الكبت والقهر المختزن فى نفوس وقلوب وعقول البعض من أبناء العرب قد بلغ مداه، وأننا ومع فشلنا التام فى الحصول على حقوقنا المشروعة سواء السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية بالطرق المشروعة والطبيعية نميل إلى إخراج شحنات الغضب والقهر فى صورة موجات عنف شديدة، كلما سمحت لنا الظروف بذلك، فتجد أهالى قرية بسيطة فى بلد عرف عنه أنه مسالم يعتدون بوحشة ضد نواميس الطبيعة على شاب أعزل وإن كان شيطانا أهوج، ونجد أهالى بلدة ليبية يحرقون بيوت عمال مصريين ويُقتلون فيهم كالخراف ونجد مصريين يقتلون للثأر أناس أبرياء فى عزاء لمتوفى!!!
2- إن شعوب المنطقة أصبحت لا تلقى إلا للقانون لأنها تعرف جيدا أن اعتبارات السلطة والمال وبعض الاعتبارات السياسية الأخرى، وبالتالى فقد أبدلت عدالة القضاء بعدالة الشارع، وعدالة الشارع لمن لا يدرك ليس لها معيار ولا حدة فهى تتشكل وفقا لشحنات الغضب المكبوتة.
3- إن المصرى ليس له حساب ولا ثقل ولا يلقى أحد اعتبارا لكرامته، فدمه وعرضه وشرفه وماله مستباح، وذلك بكل أسف نابع من إيمان عميق للشعوب المجاورة وغير المجاورة من انعدام أى حماية توفره له دولته سواء خارجها أو داخلها، والأصل أن كرامة المواطن الخارجية تنبع أساسا من قوة وصيانة كرامته الداخلية ببلاده، فمن مصرى يقتل فى ميلان إلى مصريين تنتهك كرامتهم وآدميتهم فى مباراة للكرة فى السودان إلى طبيب مصرى يجلد بألف جلدة، وهو رقم تقشعر له الأبدان وضد الشريعة، تبقى كرامتنا قيد الامتهان وقيد الاذلال وقيد دموع الثكالى والأيتام.
4- إن كم الحقد والغل والرغبة فى التشفى الذى بداخلنا وكم عدم الوعى وغياب الرؤية الذى تعيشه لا يمكن أن يعبر بنا أزماتنا المتتالية سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية، وسنظل نرضخ يوميا لقهر الأعداء بينما نشاهد ليلا مسلسلات تركية فاشلة فى أوطانها، ونتابع صباحا أخبار قضية سوزان تميم الطويلة والسخيفة بعد ان نكون عرفنا جميعا بموجة جديدة من أخبار الفساد المعتادة، فذلك ما نستحقه جميعا بعد أن ضاعت أو فلنقل شاخت كرامتنا وتحققت فينا أبشع عدالة للشارع!!!
هيثم التابعى يكتب: عدالة الشارع وكرامتى المفقودة
الجمعة، 07 مايو 2010 08:18 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة