عندما رأيت عباس بيضون، للمرة الأولى، لم أستطع صدّ هذا الانطباع بأننى أمام قبضاى لبنانى!
قوى البنيان مثل مصارع محترف، طويل وبذراعين طويلتين، مشعرتين كطرق مهجورة، له صلعة تبدو من مقاس أقل، فهى مشدودة كالطبلة على رأسه، ما يجعله متوتراً ويعديك بالتوتر!
كنا تعودنا أنا وعبد المنعم، فى الزمن البعيد، أن نقرأ بعض الدواوين فى سهراتنا، وفى سهرة من هذه السهرات قرأنا "خلاء هذا القدح" لعباس بيضون، كانت الموسيقى، وقتها، فى أوائل التسعينات، تقطع الطريق علينا كأبى الهول، تطرح أسئلتها الملغزة وتعصف بالجميع. كانت إجابة "منعم" تنطلق من (اخفات التفعيلة) لا التخلص منها، وكنت أشبِّه ذلك بمن يطلق المسدس بعد أن وضع له كاتم الصوت.
كان على أن أبقى فى اضطرابى سنتين، لأعرف أن الرقص لا يتقن إلا بالرقص، هكذا لم أجد الموسيقى فى هذا القدح، أو فشلت على الأقل فى اصطيادها، كنت أقول لنفسى: لماذا إذاً تطاردنى الموسيقى فى أعمال جبران والنفرى.
تثرثر الدرجات خطواتك كثيراً حين تغادرين، ولن نعرف بعد الأمسية فى أى ريح ستنام، لا تغلقى، أغمض عينى قبل آخر الممشى لئلا أسمع نهايةً لوقع قدميكِ، الليلة تأتين بلا خطوات، لقد نقلتها الريح إلى أبعد، وستبذرها مع القبلات، التى لطول ما كررناها لم تعد تتفتح.. ترى كيف تمكن قراءة هذا الشعر على الناس؟
كان فضولى يشبه فضول الصائغ، الذى يتحرق لمعرفة ما يفعله صائغ آخر. فلتنتظر الموسيقى قليلاً، نعم فالطائر يستطيع أن يقطع بعض الهواء بجناح واحد، ويستطيع وهو يفعل أن يطلق من صدورنا الشهقة من جماله الأخاذ.
لم أكن رأيت عباس بعد. وها هو فى بيت عبد المنعم يقرأ علينا بعض قصائده المخطوطة التى ستصدر بعد ذلك بعنوان "لمريض هو الأمل"، وأصبح فى إمكانى معرفة كيف يقرأ هذا الشعر، بدا لى عباس وكأنه كاهن، يقرأ بنبرة محايدة متدفقة، بينما يكمن التلوين فى ما يمارسه علينا بعينيه وحركات يديه وما يطرأ على جبهته من تقلص وانبساط!
وإذا كان للعينين أن تتسعا أثناء ذلك، يمكن لنصفين أن يؤلفا أغنية، بين جسدى وبين الأرض شق يوحش أحياناً، ويسمع أحياناً منه غناء. بين الراحة والتراب هذا الجلد، الذى ليس لأحد ويوشك أن يبكى.
كان يتكلم على الشعر، وكيف يعانى وهو يقترب بهدوء حيّة من هذه الطيور النادرة، كان يتكلم وكنت أراقب جبهته، كانت تمثل لى علامات الوقف والترقيم، كان يتكلم وكنت أتأمل رأسه لأدرك الغابة التى تشتعل تحت صلعته المشدودة.
كان يبدو كبدوى من هؤلاء الذين يضعون أذنهم على الرمل ثم يقول لك إن قافلة تأتى بعد يومين، أو ينظر إلى أثر قدم ويقول لك إنها لإمرأة حامل، أو يمدّ لسانه فى الهواء ويقول ستمطر بعد العصر!
القتلة هنا لا يفعلون شيئاً سوى أنهم قتلة، ونقول: غادرت الملائكة ولم يفعلوا شيئاً. ونقول: نقصت الجذور، هرب المعلمون، الأذى الصائب لا يحتاج إلى آلة، كما لا يحتاج السم إلى أى نيّة. أما الفكرة التى لا تعرف الكلام فلا ندرى متى تقتل، القتلة هنا لا يفعلون شيئاً، لكنك تعلم انهم يدفنون شيئاً فى صمتهم، وأن فقدان كلمة، فى لغة سريّة، يعنى قبراً.
سنلتقي، أنا وعباس مرات، من دون لقاء حقيقي، سنتماس كالمرمر من دون خدوش. هل كان ذلك الخدش القديم، فى بيت عبد المنعم، كافياً؟ هل على أن أستعير صوته فأقول: نقش الزهرة لا يزال طريّاً، الحجر لم يمت تماماً بعد، يبقى الكلام على الطاولة حتى يجف.
هل يكفى أن نحب من نحب آملين فى كرامات التليبسى؟، لماذا لم أكتب لعباس بيضون وهو واحد من عائلتى التى أحب: أدونيس، سعدى يوسف، سركون بولص، وديع سعادة، سليم بركات، نورى الجراح، أمجد ناصر، نزيه أبو عفش، قاسم حداد، عبده وازن، إبراهيم نصر الله، هاشم شفيق، مرام المصرى وجمانة ولينا وعناية وميسون، أليست عائلة حقيقية؟ أليس من دونها تقرضنا العزلة وكأننا من الكرتون الخالص؟
على أية حال.. سأقول معك:
يكفى مرورنا للتحية، وإذ لا ريح كبيرة تنتظر أمام الكهوف، فلا حاجة للذهاب إلى مطاردة التنانين، ولا لتتبع علامات الثلج، ولا سبيل لأن تشترك مع هؤلاء فى دم أو حجر، وأفضل لك ألاّ تخلِّف وراءك متعة مبهمة أو كثيراً من حياة سابقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة