"الوريث ووالده المحتضر" قصة لأحمد عبد المنعم رمضان

الجمعة، 28 مايو 2010 03:08 م
"الوريث ووالده المحتضر" قصة لأحمد عبد المنعم رمضان القاص أحمد عبد المنعم رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان يجلس فوق سطح قصرهم الفخيم بـ "فانلته" الداخلية وبنطلون بيجامته المقلم بخطوط زرقاء.. كانت الشمس لم تشق طريقها بعد إلى الآفاق، كرسيه الهزاز يتأرجح به حاملا إياه إلى الأمام حينا وإلى الخلف أحيانا.. كانت عينه شبه مغمضه، بقايا شعر صلعته المبكرة يتراقص بين نسمات الهواء الرقيق، كان دائما يتساءل عن سبب تلك الصلعة الغير مفهوم، فوالده عبر الثمانين بسلام دون أن تسقط له شعرة.. تراخى أكثر بجلسته وفرد جسده النحيف على الكرسى، مد يده من فوق السور المجاور لتلامس أطراف أصابعه مياه النيل، فانتفض من مكانه منزعجا وسحب يده سريعا من بين تدفقات الماء ونظفها فى قماش فانلته البيضاء المتسخة.

عاد مرة أخرى لوضع الاسترخاء، يتثاءب ويفتح أبواب فمه أمام سواد السماء الليلية، ثم مد يده إلى أعلى ليلامس القمر المكتمل، فيقربه منه قليلا كى ينير ليلته الظلماء، ثم يعود ويمد يده مرة أخرى ليبعد بعض السحب من سمائه ليفسح المجال أمام النجوم لتكون ملكا لعينيه . اصطدمت يده الممتدة بين النجوم بنجم هاو أو شهاب تائه فى أطراف السماء فلسعت يده الهشة. يتأكد أن الليلة ليست هى الأفضل بين لياليه، فينزل من عليائه ليطمئن على أبيه المحتضر منذ سنين فوق سريره الحريرى الملمس … لم يكن حقا ذاهبا ليطمئن عليه بل كان ذاهبا آملا فى موته، فلقد عاش طويلا دون أى فائدة، ولا يزال يعذبنا برقدته تلك ومرضه، ويحبسنا بجواره ليل نهار انتظارا إما لموته أو لشفائه، لما لا يغادرنا ويموت ؟؟ لما هو باق ؟؟

كان الابن هو الوريث الوحيد لوالده الكهل المحتضر، وكان يقضى أيامه منتظراً أن يأتيه الميراث المنتظر منذ سنوات، الأراضى والقصور والعمال والأموال، كل شىء سيكون ملك قبضته، كانت عينيه تلمعان شهوة ونشوة كلما تخيل تلك اللحظة الموعودة، كم سيكون سعيدا بموت أبيه .

دخل الابن حجرة والده فوجده مازال نائما كما كان دائما، المحاليل بجواره لم تتحرك وأنفاسه لم تتوقف. السماء لم تهتز بعد لطلبه اليومى بأن تخلصه من هذا العجوز . لم يكن يوجد من يحب هذا الرجل أبدا، كان نموذجا للكراهية، هيئته منفره، جسده المدكوك، أنفه المفروشة بعرض وجهه، وملامحه التى تعكس نوعا من الغباء الأصيل وعينيه النائمتين وإن كانا مفتوحتين عن آخرهما، وشفتاه المتدليتان النافرتان خارج إطار وجهه، كان وجهه وحده يكفى لأن تكرهه، وكذلك تصرفاته، المتنوعة ما بين الغباء المحكم أو التسلط والظلم والجبروت أو الخيانة أو حتى الذل والمهانة لمن هم أسياده، كان مكروها من كل أهل الأرض قاطبة، الفقير والغنى، الكبير والصغير، الدانى والقاصى، ولكن ما من أفواه تتكلم … حتى ابنه كان يكرهه … فلقد أورثه كراهية الناس، لم يكن للولد نفس ملامح أبيه الكريهة، فلقد يبدو لك للوهلة الأول رشيقا ممشوق القوام، ذا صلعة مهيبة وابتسامة خفيفة، ولكن شيئا ما لا يزال مفقودا … الناس كرهته أول الأمر لأنه ابن لهذا العجوز المحتضر، وكرهته أكثر بسبب عجرفته وتعاليه وغبائه الموروث البين.
ظن البعض أن تعليم الابن بالخارج وعمله فى بلاد أوروبا قد أضفى إليه بعضا من الذكاء، ولكن كل تصرفاته منذ أن أتى إلى أرض البلاد تظهر افتقاره الشديد لأى نوع من الذكاء. لقد أتى وأتى معه الخراب، وحقا فهو معذور، فمن أين يأتى له الذكاء ؟؟ّ!!

جلس "الوريث" بجوار سرير أبيه وتأمل الانتفاخات المتناثرة تحت عينيه وشرب كأسا من الفودكا الملقاة على الطاولة المجاورة، أرخى جسده مرة أخرى وعينه مثبتة على جسد أبيه المتمدد على السرير، لا تفرقه عن الموتى .

غفت عينا الوريث قليلا حتى امتدت يد على كتفه لتوقظه، ظنها أول الأمر يد أبيه، ظنه قد قام من موته وتعافى مرة أخرى، وقد كان هذا هو الهاجس الأسوأ على الإطلاق الذى ينتاب الوريث، أسوأ من أكثر كوابيسه إيلاما. لكنه لمح جسد أبيه لا يزال مفترشا السرير كما هو، فتنفس الصعداء ونظر متمهلا إلى صاحب اليد الممتدة على كتفه، فإذ به شخص غريب لم يعتد وجوده بين جدران القصر .

ارتبك الوريث بأول الأمر ثم انفعل وعلا صوته صارخا بوجه هذا الغريب "من أنت ؟؟ وكيف دخلت إلى هنا ؟؟ أين الحراس ؟؟."

فأشار له الغريب بأن يصمت واضعا أصبعه على فمه وقال له بهدوء تام "لقد جئت هنا لأقبض روح أبيك".

فتثبت الابن بمكانه قبلما تتطرق ابتسامة إلى وجهه الشاحب بطبيعته وتحولت الابتسامة تدريجيا إلى ضحكة علا صوتها بأرجاء المكان:
"تعلم أنك قد تأخرت كثيرا ؟؟ كان لابد لذلك أن يحدث من سنين طويلة انتظرتك فيها، فهو ميت بالفعل ولكنه كان بحاجة إلى زيارتك هذه كى تزهق روحه، لقد سئمت، مللت من وجوده، يعاملنى كالأطفال، لا يسمح لى بالتحكم بأراضيه ولا أن آمر عماله، إنه متسلط سخيف، ولكنى سأكون أكثر تسلطا منه ههههه" واستمر يضحك بشكل هستيرى.

هذا بينما يقف الغريب صامتا هادئا بملامحه المختلفة الحادة، ولمعة عينيه المخيفة، لم يكن يحمل سلاحا ولم يكن يستخدم يديه بالقتل، فالموت له أسهل من ذلك ,هو معتاد على فعله عبر سنين.

أكمل الوريث كلامه المتزاحم الهستيرى "هيا …هيا …ماذا تنتظر ؟؟ اقتله .. أنا لا أطيق وجوده ولو للحظة أخرى إضافية، لا أحد يطيق وجوده لحظة أخرى، لقد جثم على صدورنا للسنين، حتى أمه لم تكن تحبه، هيا، اقتله وأنجز مهمتك سريعا، ليتها تكون أفضل ما فعلت أبدا".

فقال الغريب بنبرة ثابتة، لا يعلو عنها ولا يهبط "كذلك أنت … لا أحد يطيقك"

-لا … فأنا..

-مقاطعا "لقد جئت إلى هنا من أجل إزهاق روح أبيك، هكذا كلفت، هو ميت فعلا كما قلت، مثله كمثل الأصنام وإن كانت الأصنام أكثر جمالا، هو مستبد حتى وهو شبه ميت، الجميع يخشى أن يفيق مجددا، لا أحد يصدق أنه يموت مثله مثلنا، حتى أنت تخشى أن تطلق يدك فى المراعى والأراضى خوفا من هذا الجسد المتحجر.. تخشى أن يستيقظ، ههه ؟؟... اعترف...أليس كذلك؟؟ لقد أصبح أبوك فى مخيلتك ومخيلة الناس جميعا إلها، لا يموت، ولكن ما من إله مكروه بهذا الشكل ... أما أنت فأنا لا أعلم ماذا أنت فاعل بميراثك ؟؟ ماذا ستسوى بعمال مصانعك وفلاحى أراضيك ؟؟ أظنك ستقتلهم ...عمدا ... ستمد يدك الطائلة تلك لتخنق بها رقابهم، واحدة تلو الأخرى، ستشرب دما وتحيا قاتلا، ستظهر أمام الناس ببدلتك السوداء الأنيقة ورابطة عنقك الحمراء اللامعة وشعرك الخفيف مضفيا عليك الهيبة، ولكن ستظل يدك حمراء ملوثة، لن تستطيع أن تخفيها، كلما نظفتها بمنديل، ستتلوث بمزيد من الدم، كذلك لن تستطيع أن تضعها بجيوبك حتى لا تفسد أناقتك الكاذبة، قد يكون الحل أن تقطعها ولكنك لن تفعل، فهى سلاحك، دونه أنت لا تساوى شيئا، تحرك بها الأقمار وتسلب بها البيوت وتخنق بها الرقاب . لقد جئت هنا كى أميت أبيك، ولكنى أظنك أنت أحق منه بتلك الرحلة، فهو مقضى عليه، أما أنت فاستعد يا فتى، الميراث ليس آتيا، سأقذف بروحك المتعجرفة بين ظلال الموت.أتعلم، قد تكون المرة الأولى التى سيدعو الناس لى ويحبوننى .. استعد يا فتى، الميراث ليس آتيا... ليس آتيا"


أى تشابه بين الأحداث وبين الواقع هو مقصود ومتعمد.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة