* أول رواية قرأتها فى حياتى، كانت عبارة عن مجلد كبير للمؤلف "الكسندر دوماس" بعنوان ( الفرسان الثلاثة )، تحكى عن زمن الفروسية والشجاعة والشرف، زمن الرجولة فى القرن السابع عشر، رواية الفرسان الثلاثة، والتى رسمت صورا صادقة لحياة البلاط الفرنسى فى ذلك العهد والصراع العنيف بين السلطتين المدنية والروحية، كانت لها أثر بالغ فى نفسى حينها، حيث كنت فى السابعة عشر من عمرى، رأيت فى تلك الرواية صورة الرجولة الحقيقية تتجسد فى أبطال القصة وتتحدث عن أخلاق الفرسان وبطولاتهم وتضحياتهم لحماية من عاهدوا لحمايته، وتعلمت أن الرجولة موقف، وأن الوفاء بالعهد والوعد هو أهم السمات التى يجب أن يتحلى بها الرجل..
فظلت صورة أى رجل فى نظرى هى صورة الرجل الصلب القوى، الذى يتحلى بأخلاق الفرسان.
* اليوم وفى زماننا هذا تغيرت الصورة وأصبحت صورة مشوهة للرجولة، نرى فيها الرجال يبكون، ويلطمون الخدود لا فرق بينهم وبين النساء فى ضعفهن، ونرى رجالا يهزون خصرهم يتراقصون ( تغلبوا فى رقصهم على أمهر راقصات العالم فى الملاهى الليلية ) وآخرون فقدوا رجولتهم أمام الخمر والميسر والمخدرات والرشاوى والربا والزنا ( لأنهم أضعف من مقاومة كل تلك المحرمات )، فنرى الرجولة تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة أمام مشكلات الحياة الصعبة، رجولة تنهار وتسقط أمام واقع ملئ برائحة الدم والفساد والغش والتزوير، رجولة مكبلة بقيود الظلم والطغيان، فنراها تستسلم لتلك القيود، وتنتحر على عتبات الطغاة..
وبمقارنة بسيطة بين رجولة العصور الوسطى ورجولة اليوم، تلقائيا تجد نفسك تترحم على زمن الرجال، زمن البطولة والشجاعة ونصرة المظلوم، واحترام قيم الشرف والعهود والمواثيق، ومواجهة أعباء الحياة بصبر وصمود وجلد، لا الفرار منها إلى الانتحار، والهروب من المسئولية.
* أعلن مؤخراً الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن وقوع 104 آلاف محاولة انتحار فى مصر خلال عام 2009 وأغلبهم من الشباب فى المرحلة العمرية من 15 إلى 25 عامًا بنسبة تقدر بـ66.6% ، فمنذ أربع سنوات فقط، وتحديداً عام 2005، شهدت مصر 1160 حالة انتحار إلا أنه ارتفع إلى 2355 فى 2006، ثم واصل ارتفاعه إلى 3700 حالة فى 2007، ليصل إلى 4200 فى 2008 ثم يكسر حاجز الخمسة آلاف منتحر فى عام 2009 بمتوسط 14 حالة انتحار فى مصر يومياً، لنقارب أعلى معدلات الانتحار عالمياً.
وقد أفاد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2009 بأن هناك 65 مليون عربى يعيشون تحت خط الفقر، وحلت مصر ثانية بعد اليمن بعد أن وصلت نسبة الفقر بها إلى 41 % وأشار التقرير إلى أن البطالة تعد من أهم المصادر الرئيسية لانعدام الأمن الاقتصادى فى معظم البلدان العربية، وبحسب تقرير جهاز التعبئة والإحصاء، فعدد العاطلين فى مصر بلغ 2 مليون و346 ألف فرد.
* الإحصائية التى أمامنا فيها أرقام مرعبة تنذر بخطر داهم يلتهم أرواح شباب فى عمر الزهور، شباب يعلن عصيانه على الحياة، وتمرده على كل الشرائع التى تحرم الموت انتحارا، شباب صلب نفسه بنفسه على صلبان الظلم والطغيان مرحبا بالموت وكأنه حياة، ومنهم من أشعل النار فى نفسه وجسده، مقبلا على جهنم، وصورتها أمام عينه أهون بكثير وأرحم من جهنم التى عاشها فى الدنيا، ومنهم من ألقى بنفسه تحت عجلات المترو، ظنا منه أن عجلات المترو التى ستدوس على جسده أكرم له من أن تداس كرامته تحت أحذية الطغاة ونعال الفقر، ولطمة الزمن التى لا ترحم، ومنهم من رمى نفسه فى اليم غرقا أهون له من الغرق فى جب الديانة عسى أن تلتقطه يد رحيمة تكون أرحم من أيادى الظالمين التى طغت واستكبرت على نفسه وجسده فى زماننا هذا، وآخرون أطلقوا على أنفسهم رصاصة الرحمة بعد أن أصابهم اليأس والإحباط والعجز عن توفير أبسط متطلبات الحياة لهم ولذويهم.. ألا يعنى هذا انتحارا جماعيا للرجولة؟
* حالات الانتحار المتزايدة فى مصر ربما لم يلتفت إليها أحد وباتت مجرد أرقام وإحصائيات وعناوين مثيرة فى الصحف يتناولها البعض على أنها مادة دسمة تثير شفقة أصحاب القلوب الرحيمة فتزيد نسبة مبيعات تلك الصحف عملا بالمثل القائل( مصائب قوم عند قوم فوائد)..
ولكن هل تكفى مشاعر الشفقة لحل مشكلة انتحار الرجولة؟ المعروف أن شباب أى أمة هم ثروتها الحقيقية، الثروة الدائمة التى لا تنضب.. ولابد لنا من تنميتها والحفاظ عليها، وتوفير المناخ الملائم لحياة كريمة مستقرة يشعر فيها الشباب بالأمن والاطمئنان على حياتهم ومستقبلهم.. فكيف لمصر أن تترك أبناءها ينتحرون تباعا؟ ومن يتحمل مسئولية هؤلاء الشباب الذين أقدموا على الانتحار نتيجة يأسهم وفقدانهم الأمل فى المستقبل؟ وهل علاج مشكلة الانتحار تنحصر فى تقديم بعض النصائح لكل منتحر قبل إقدامه على تلك الخطوة؟ أم تحتاج منا لتفكير فى حلول جذرية يتحمل فيها الجميع مسئولياته؟
* من يقرأ رواية الفرسان الثلاثة يلاحظ جملة كثيرا ما كان يرددها فرسان القصة ( الواحد للكل والكل للواحد ) هذه الكلمات وحدها تعتبر مبدأ وقيمة أخلاقية، وفضيلة كان لابد أن نعلمها لصغارنا منذ نعومة أظافرهم، بدلا من تعليمهم الأنانية والخوف والجبن والاستسلام.. ونردد على مسامعهم ( من خاف سلم ) و( امشى جنب الحيط).. نعلمهم أن الفرد لابد أن يكون فى خدمة الجماعة، والجماعة لابد أن تكون فى خدمة الفرد، وأن كل قوانين الأرض لا تمنعنا من نصرة المظلوم ومواجهة الظالم.. وإلا لماذا أقدم الرجال على الانتحار!! أليس لإحساسهم بتخلى الجميع عنهم أفرادا وجماعات؟
* المعتصمون لبسوا أكفانهم أمام مجلس الشعب وكأنهم يرسلون رسالة إلى الحكومة المصرية مفاداها أنهم على استعداد لاستقبال الموت من أجل تحقيق مطالبهم العادلة، بعد أن فشلت لغة الاستجداء والتوسل التى ناشدوا بها أهل السياسة والحكم، فهل قرارهم هو بمثابة إعلان عن انتحار جماعى؟
وهل أصبح مصير الرجولة هو الانتحار بعد أن فشلت الدموع فى إنقاذ رجال وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الطغاة وحدهم؟
• إن الفقر والبطالة وضيق ذات اليد من أهم أسباب دفع الرجال إلى الانتحار، فما أصعب الحال على رجل يشعر بعجزه عن إطعام أهل بيته، إحساس قاتل يدفع أى إنسان لفقدان عقله وتوازنه، والحل ليس فى الاستجداء والتسول ودفعه لبيع أعضاء جسده، ولا بتقديم المساعدات له، بل فى إنقاذ رجولته وكرامته أمام أبنائه وإعطائه حقوقه كاملة فى وطنه وثرواته، والدولة وحكوماتها من الواضح أنها اتخذت قرارا بعدم الاستجابة لمطالب هؤلاء ولا غيرهم من البشر الذين يحيون أمواتا على تراب مصر.. وخدعت المصريين بإعطائهم حق الصراخ والنواح فى إطار القانون وبالطرق السلمية، ورجال مصر صدقوا الخدعة ووقفوا ينتظرون قانونا ينصفهم، أو سلما يملأ بطون أطفالهم، فلا هذا القانون احترمه أهل الحكم، ولا السلم كان فى حساباتهم..
• ولم يبق لهؤلاء إلا الانتحار.. وهذا هو هدف السادة الساسة الذين بعثوا برسالتهم للجميع ( أن اشربوا من البحر أو موتوا منتحرين!! ) ولم يتبق للشعب المصرى إلا أن يكتب رسالته إليهم، فهل ستكون رسالته ( الواحد للكل والكل للواحد )؟
• أم الترحم على زمن الرجولة وزمن الفرسان، وزمن الواحد للكل والكل للواحد؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة