حاتم حافظ يكتب فى مديح الشيطان

السبت، 22 مايو 2010 08:05 م
حاتم حافظ يكتب فى مديح الشيطان إشكالية الشر فى الكون تبحث عن حل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حاول علم الكلام الإسلامى حل إشكالية الشر فى الكون، وهى الإشكالية التى كان محورها السؤال حول المسئولية عن الشر، فإذا كان الشر فى الكون (يحدث) بإرادة إلهية فهذا انتقاص من صفات الله، المتعال عن فعل الشر. وإذا كان الشر فى الكون (لا يحدث) بإرادة إلهية فهذا انتقاص من قدرة الله. وقد حاول علم الكلام التوفيق بين القدرة المطلقة لله وبين عدم مسئوليته عن الشر فى الوقت نفسه. تم هذا التوفيق باعتبار أن الإنسان حر فى أفعاله، بما فيها بالطبع فعل الشر، وبهذا فإنه المسئول عن الشر، الشر الذى لا يفعله الله وإنما هو يطّلع عليه فحسب، لأنه كامل المعرفة. حرية الإنسان ـ إذاً ـ حلت إشكالية الشر من جهة ومن جهة أخرى أعطت مبررا للحساب، لأنه لا حساب على ما لم نكن أحرارا ـ ومسئولين ـ فى فعله.
لا يمكننى التفكير فى هذه الإشكالية دون التفكير فى عملية الإبداع. إن أى كاتب روائى أو مسرحى يعرف أنه لا يمكنه السيطرة على شخصياته متى وجدت، وأنه ما أن يبدأ فى الكتابة حتى تتخذ شخصياته مسارات غير محسوبة، مسارات تكون باعثا على دهشته فى كثير؛ إن لم يكن فى كل؛ الأحيان. لهذا يدهشنى كثيرا ضيق الأفق الذى يُلقى به البعض تهما جاهزة لأى عمل إبداعى. ففى عام 2000 تقريبا رُفعت دعوى لسحب رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" وتوالى الهجوم عليها بعبارات هذه أكثرها تهذيبا "قد ملأ هذا الكاتب فض الله فاه صفحات روايته بالكفر والعهر والفجور فى أحط أشكاله"، لمجرد أن الشخصية الأساسية فيها ملحدة. كان على هذه الشخصية أن تعبر عما تعتقده، فالمناضل الشيوعى العراقى ـ بطل الرواية ـ الذى يهرب إلى الجزائر فيقدر له أن يقف على عصر انهيار الثورة، يفقد الأمل فى كل شىء: الدولة.. الأفكار الكبرى.. الله. ومنذ أسابيع قليلة رُفعت دعوى مماثلة لسحب "ألف ليلة وليلة" ومنعها بدعوى أن ضمن نصوصها ما يسىء إلى الإسلام ويخدش الحياء".
فإذا كان علم الكلام قد وفق بين قدرة الله وبين عدم الاعتراف بمسئوليته عن الشر فى الكون (كتاب الله الأعظم)، فكيف تعجز عقول هؤلاء عن منح الكاتب؛ هذا البشرى المسكين محدود القدرة؛ صيغة من صيغ التوفيق بين إرادته ككاتب وبين عدم مسئوليته عن الشر فى رواية أو قصة أو أى عمل أدبى؟.

فى ظنى أن الإشكالية هذه، والتى يبدو أنها سوف تستمر طويلا، تغفل حقيقة أن النظرة الأخلاقية الضيقة لا تصلح للتخييل. ذلك أن طريقته فى النظر للأمور تختلف بالطبع، لهذا أمكن مديح الشيطان فى قصيدة أمل دنقل التى تبدأ بـ "المجد للشيطان معبود الرياح" باعتباره رمزا للتمرد، ليس فحسب لأنه قد عارض الله، ولكن أيضا لأنه عارض الله فى حضرته، بل وفى ملكوته أيضا (شيطان كلمة عبرية تعنى الخصم أو المقاوم!). مديح الشيطان على هذا النحو فى القصيدة ليس له أى دخل بالنظرة الدينية له كشخصية محورية فى قصة الخلق، كما أن مديح الشيطان فى التخييل ليس معناه دعوى لمعارضة الله نفسه، لأن الله فى التخييل سوف يكون رمزا ليس إلا باعتباره "أبانا الذى فى المباحث"، وليس الله الموجود المتعالى، هذا كان مبرر وجود علم الجمال بالأساس لأن الأحكام التى قد تصلح للواقع لا تصلح للتخييل.

فى عام 1966 نشر نجيب محفوظ روايته "ثرثرة فوق النيل" التى تجرى أحداثها فى عوامة على النيل يؤمها عددا من نجوم المجتمع فى الصحافة والفن والأعمال ليتعاطون الحشيش والخمر والجنس. وعنها كتب رجاء النقاش أنها تسجّل"محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء‏،‏ وهى المحنة التى بدأ الناس يعانون منها‏,‏ خاصة فى أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع‏,‏ وأصبحوا يعيشون فى شبه غيبوبة‏,‏ فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة‏,‏ ولا هم قادرون على رؤية الطرق الصحيحة‏,‏ وفى المرة الوحيدة التى حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة فى شارع الهرم‏,‏ ولاذوا بالفرار‏‏".

أى أن النظرة الأخلاقية لا تصلح لقراءة العمل الأدبى إلا فى مجمله فحسب، فيما يُعرف بالأثر الجمالي، أما تفاصيل العمل نفسها فلا يمكن اجتزاؤها ومحاكمتها أخلاقيا، لأنه كما أن الخالق سبحانه وتعالى قد خلق الكون لغاية ما، فإن هذه الغاية لن تتحقق بغير هذه التفاصيل، حتى تلك التى يمكن أن نضعها فى خانة الشر. وكما أن غاية الله من خلقه للكون لن تتحقق إلا بكل هذا الشر الذى يصنعه البشر على أرض الله فإن غاية الكاتب من عمله لن تتحقق إلا بمجاورة الشر للخير، الأشرار للأخيار، الطاهرات للمومسات، الفاسدين للصعاليك للقاتلين المحترفين لأولياء الله الصالحين. لهذا لا يمكن محاكمة ألف ليلة وليلة لمجرد تضمنها ألفاظا قد تخدش حياء البعض وقد تثير حفيظة البعض وقد تقلق البعض على منصات خطابتهم.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة