من الأشياء المخجلة التى نفعلها دون ذنب، أن القلم الذى يموت صاحبه.. لايجد من يدافع عنه فى غيابه !
فماذا فعلنا لنجيب محفوظ فى غيابه إلا إعادة طبع مؤلفاته فى طبعات فاخرة ومحدودة.
إحسان عبدالقدوس كان يكتب أكثر من عشر ساعات فى اليوم.. وأبدع مئات القصص، ومنحناه أقل من حقه وهو بيننا.. ولم نتكلم عنه بعد رحيله.
والعبقرى يوسف إدريس.. أستاذ القصة القصيرة، رائدها الفذ، ومفكرها المتفرد، وكامل الشناوى.. الإنسان المتخفى فى قصائد كانت أجمل ما كتب فى المائة عام الأخيرة. ومصطفى محمود بكل أدبه الأنيق وفلسفته العميقة، وصالح مرسى، وكنت أحد تلاميذه وأصدقائه، فهو الذى ابتكر لنا أدب الجاسوسية بكل تفاصيله وكل خباياه وكل دهشته وكتبه بأرق العبارات وأرقى الأفكار.. وكان نجم الأدب لخمس سنوات على الأقل حين أطلق تحفته التى لاتنسى: رأفت الهجان. ماذا أخذ منا.. وماذا منحنا اسمه الكبير، ولوكتب صالح مرسى ماكتب فى بلد آخر.. لصنع فى حياته وبعد رحيله ثروة من المال، والمكانة الأدبية التى لاتنسى. فهل كتبنا شارعا أو ميدانا باسمه.. وكان يستحق مدينة !
لقد تنبأ صالح مرسى بمصير السنوات التى دفن فيها نفسه فى غرفته التى لا تزيد على مترين.. وعلى مكتب صغير صنع كل روائعه، وحين أهدانى الجزء الأول من رواية رأفت الهجان، كتب لى إهداء بحروفه الصغيرة فيه: «إلى ابنى الذى سيضيع عمره وحبره مثلى بين الورقة والقلم.. ولن يبقى له فى آخر الأمر سوى متعة الساعات التى قضاها كاتبا».
كان ذلك منذ عشرين سنة.. وكلما سقط فارس.. سقط قلمه وطويت أوراقه.
وبرحيل الفارس محمود السعدنى.. كنت أتأمل سرادق العزاء، وفيه مئات الأسماء الكبيرة فى كل المجالات.. وأظن أن عم محمود كان سيصبح أكثر سعادة لو اجتمع كل هؤلاء ليس فى رثائه.. لكن لتدبير طريقة حقيقية للدفاع عن أسماء وحقوق ومؤلفات وإبداع كل فارس رحل !
شعور قاتل أن تدفع ماتدفعه للكتابة من العمر فى مساحة صغيرة بين الورقة والقلم.. وبين أصابعك وحروفك.. تضع نصفك وأكثر على الورق باختيارك.. ثم تدرك تماما أنه حتما سوف يأتى يوم.. تطوى وتنسى ولايتذكر أحد أن يشترى ماكتبت من أرفف مكتبة.. بينما مئات الكتب التى لامعنى لها.. تجد من يدافع عنها، ويهلل لها، ويسوق لمؤلفين بلا موهبة، وتطبع عشرات الطبعات.
كل ما أملكه ونملكه أن ندعو لهم الله بالمغفرة.. ونشترى كلما تيسر كتابا من مؤلفاتهم الجميلة.. نتعلم منها ونعيش عليها.. المهم من يضمن لنا أن يذهب ثمن ما نشتريه إلى الورثة وليس فقط إلى الناشر.. وهذا أضعف مايمكن أن نقوم به لعائلات افتقدت كبارها كثيرا من الوقت، وهم على قيد الحياة.. وفقدتهم للأبد برحيلهم.
من حق عائلات كبار المبدعين أن يعيشوا حياة كريمة، ولوكان بميراث من ورق.. وأن يفرحوا أن أباءهم كانوا هؤلاء العظماء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة