رسام الكاريكاتير لابد له وأن يكون قارئًا جيدًا فى السياسة والأدب والفن، وإلا ما كان، فالكاريكاتير كواحد من فنون الإعلام يلعب دورًا بارزًا فى إبراز رأى ما وتلخيصه بصورة مقبولة وبسيطة، مصحوبة بنص قصير أكثر قبولاً وبساطة، ليكون له وقعة عند الملايين من القراء، والذين لهم فى النهاية، وفى حالة عدم وضوح الفكرة، وهذا ما يكون فى الغالب، حرية التفسير والتحوير والاستنتاج بما قد يتماشى أو لا يتماشى وبالضرورة مع فكر الرسام، تمامًا كما فى حالة النظر إلى لوحة تشكيلية لفنان له موضوعه، والذى يصعب فهمه إلا إذا توافرت للناظر بعض أساسيات الفن وطبيعته، وهذا ما ينطبق أيضًا على رسام الكاريكاتير. وقد أنجبت مصر الكثير من الفنانين النابغين فى هذا الجزء الخاص جدًا من الفن الإعلامى والذين برزوا واعتبروا فى نظر المتتبعين لهم ككتاب رأي، بتمكنهم من اللغة وفن تحويرها للعب بالحدث وأعطاؤه البعد الذين يرونه هم وينتظره منهم القارئ فى أحيان كثيرة (أو السلطان فى أحيان أخرى)، مما قد يؤدى إلى وضع بعضهم من السابقين أو اللاحقين والمعاصرين فى قالب سياسى معين، إما الإنتماء إلى القارئ أو إلى السلطان أو الوقوف بين بين ليشكل ذلك حالة من الحيرة الفكرية لدى المتلقى تجاه حيثية إنتماء الفنان، أو كما مثلت قبل بضعة سطور بمثال النظر إلى لوحة تشكيلية.
وقد وضعت هذه السطور بعد فترة من نشر كاريكاتير للفنان (حلمى التونى) فى جريدة الأهرام اليومية (بتاريخ 6 أبريل) يتناول موضوعًا يشغل الكثير من المصريين بالخارج، وهو موضوع "ازدواج الجنسية"، حيث قام الفنان القدير بتصوير "المصرى المزودج الجنسية" بصورة لرجل شاب ذى شخصيتين ونصفين، حيث يظهر نصفة الأيسر فى شخصية المصرى الريفى مرتديًا جلبابًا تحته صديرى كلاهما مقلم بالطول وليحمل نصف القروى هذا قفة اشتهرت عنه ليشار إليه فى نصف الصورة بسهم كتب تحته (من عجائب المخلوقات).
أما النصف الآخر فهو لنفس الشخص ولكنه هنا أوربى يرتدى زيًا حديثًا ورابطة عنق ويغطى عينيه بنظازة شمسية داكنة وتبدو على رأسه قبعة اشتهرت عن الأوربيين وليحمل هذا النصف حقيبة سفر - ليأتى عنوان الكاريكاتير على اليمين: (انتشار ظاهرة اِزدواج الجنسية بين المصريين).
ولما كان موضوع "ازدواج الجنسية" لدى كثير من المصريين الذين يعيشون بالخارج من الموضوعات المجتمعية العالقة والشائكة فمن حقهم على المجتمع الذى ينتمون إليه – وهو مصر، الجزء من الكل العربي- أن يتيح لهم فرصة توفير المكان والزمان المناسبين للحوار معهم، حيث أنى لا أرى أن هناك من يمثلهم ويمثل مصالحهم، وهى مجتمعية أيضًا، لا فى الداخل ولا فى الخارج - مع العلم أن كاريكاتيرالأستاذ القدير يمثل فكرة مسبقة عن عموم المصريين والعرب بالخارج ويعتبر بهذا غير مقبول كقاعدة لمثل هذا الحوار – على عكس أرائه القيمة فى مواضيع مجتمعية أخرى كثيرة .
أما إذا كان الأستاذ (حلمى التوني) قد قصد بالكاريكاتير موضوعًا آخر، وشخصًا بعينه، حيث أن تاريخ نشر الكاريكاتير (6 أبريل)، وهو عنوان مميز فى تاريخ السياسة المصرية المعاصرة، فهنا تكون الكارثة – وهى التى لا أتمناها له، مثلما لا أتمنى لقلمه - النظيف والنابغ - أن يكون موجهًا ضد الكثير ممن يقفون معه فى خندق واحد ليس فقط ضد الفقر والجهل والمرض، بل وأيضًا - وهذا من الأهمية بمكان- ممن يقفون معه ومع فكره المتحرر ضد الإنتماءات النابعة عن دونية بائسة مضادة ومعارضة لفكرة المواطنة الشاملة لا للشعوبية أو العنصرية الإقليمية الضيقة ولا للأصولية بكافة أشكالها الحمقاء، وهم فى النهاية من المحبين لفنه. وأخيرًا فلعل هذه الرسالة تصله، كما لم تصلنا رسالته بعد.
استاذ علوم سياسية بجامعة ونسبروك – النمسا *