جاء مبكرا إلى مكتبه، فاليوم ليس عاديا، فسيعقد صفقة هامة أرباحها ستتعدى الخيال.. قام بتربيطات كثيرة مع آخرين ليضمن الحصول عليها.. جاءت سكرتيرته.. باين على سعادتك ما نمتش كويس امبارح.. اطمئن يا فندم مزاد أرض الساحل هيرسى علينا إن شاء الله.. تذكر شيئا.. قولى لفوزى بلاش الشيروكى خليه يطلع المرسيدس السوده ويكون جاهز بعد نص ساعة..
أخذ يرشف القهوة ببطء وهو ينظر على شاشة الكمبيوتر.. فتح يتصفح الأخبار.. لم يجد جديدا.. إضرابات ومطالب برفع الأجور.. ذهب لمقالات القراء.. هوايته منذ زمن بعيد أن يعرف ما يفكر فيه الناس.. قرأ شعرا يقول خلاويص.. شاهد عنوانا آخر.. أبو السيخ.. فشدته بدايته.. عندما انتهى منه قال لنفسه يستاهل.. فالغباء والفقر وجهان لعملة واحدة..
دخلت السكرتيرة.. فيه شاب جه امبارح عايز يشتغل.. الأمن منعه والنهارده جاى.. بيقول لازم يقابلك وأن والده كان صديقك فى الجامعة.. اسمه.. مجاهد حسين عبد الله.. أخذ يتذكر وهو يرشف آخر رشفة فى القهوة.. حسين عبد الله.. حسين عبد الله.. اهتز الفنجان فى يده وتغير لون وجهه.. حدديله ميعاد بعد أسبوع..
أحس بحرارة تصعد إلى رأسه والزمن يعود به سنوات طويلة لذكريات كان قد نسيها.. نشأ فى أسرة فقيرة، والده موظف بسيط.. هو وإخوته الخمسة يعيشون حياة متواضعة.. عندما دخل الجامعة وجد تيارات كثيرة تتصارع.. تصادق مع الكثرين.. انتحى به صديقه الحميم يوما.. عارضا عليه الانضمام لتنظيم سرى هدفه حماية البلد من التيارات التى تريد إيقاف المسيرة والعودة به للوراء.. قبل على الفور.. أحس أن انضمامه سيحقق له غايات طالما حلم بها.. بدأ فى كتابة التقاريرعن زملائه وعن الأساتذة.. أظهر اجتهادا شديدا.. كان الإحساس بالقهر والإحباط من الهزيمة يملأ نفوس الطلاب.. كان حسين عبد الله من زملاء الشله.. وسيم.. متكلم.. من عائلة ميسورة.
كان يلاحظ نظرات متبادلة بينه وبين زميلة لهم ابنة مسئول كبير يشار له بالبنان.. خرجت مظاهرة تصدرها حسين ونظم شعاراتها.. كتب تقريرا.. اعتقل زميله ولم يظهر بعدها أبدا..
وطد صداقته بابنة المسئول الكبير.. استغل مواهبه فى الإيقاع بها.. كانت فرصته الذهبية لضمان مستقبله.. قال والدها له.. لم أتعود أن أرفض لها طلبا.. أعرف أنك من أسرة متواضعة.. عليك النظر دائما للأمام وتنسى ما خلفك تماما.. فهم المقصود.. لم يحضر أحدا من أهله حفل زفافه..
كأن مغارة على بابا فتحت له.. تدرج سريعا فى المناصب.. لم يترك فرصة لعمولة أو غيرها إلا واستغلها.. بعد سنوات كان يمتلك الآلاف التى لم يحلم يوما بأن يمسك بواحدة منها.. بدأت فترة الانفتاح.. دخلها بكل ما يملك وبعد مضى سنوات كانت الآلاف قد تحولت إلى الملايين..
سافر للخارج يوما وعند عودته أخبروه بأن هناك من اتصل به.. والده توفى.. ذهب لبيت أهله بعد سنوات طويلة لا يتذكر عددها.. قابلته أمه.. بادرته.. أيه اللى فكرك بينا؟.. عندما هم بالانصراف.. ترك مبلغا فى يدها.. ربنا ساترها مش عايزين منك حاجة..
تنبه على صوت السكرتيرة.. العربية جاهزة.. طوال الطريق إلى الإسكندرية كان شاردا.. لا يعرف ماذا حدث له.. لماذا استيقظت فيه فجأة مشاعر وأحاسيس ماتت منذ زمن بعيد.. حاول أن يطرد تلك الخواطر فلم يستطع.. بدأ يحدث نفسه.. ماذا كنت أفعل.. هل كنت أستسلم للفقر.. ماذا كان سيكون مصيرى ومستقبلى.. كنت سأكون مثل قصة أبو السيخ التى قرأتها هذا الصباح.. اختيارى كان صحيحا.. لم أكن مخطئا وأخذ يرددها.. نهر السائق.. أنت بتفسحنا.. سرع شوية خلينا نوصل بسرعة..
انطلقت السيارة تسابق الريح.. شريط الذكريات عاد كخيال سرعته كسرعة السيارة.. شاهد نفسه وهو يكتب التقارير فى زملائه.. شاهد حسين الذى كان السبب فى ضياع مستقبله.. شاهد والده وأخوته وأخواته.. حماه وزوجته وأولاده.. أمه وهى تسحب يدها رافضة أن تأخذ منه ما حاول أن يضعه بيدها من مال..
فجأه شعر بضربة كالزلزال وأصوات رهيبة وجسده يتأرجح وبآلام مبرحة كأن شيئا يسحق عظامه.. فقد الوعى.. انتبه.. رأى رأس فوزى مغطاة بالدماء وعيناه مفتوحة لا حياة فيها.. سمع أصوات كثيرة متداخلة.. حد يطلب الإسعاف.. فيه دخان.. العربية شكلها هتولع.. اللى قدام ميت.. لأ.. اللى وارا صاحى.. عشرات الأيدى امتدت تجره من ملابسه والدماء تغطيه وهو لايستطيع الكلام.. وضعوه على الأرض بجانب الطريق وجثة السائق بجواره مغطاة بصفحات الجرائد..
سمع صوت سيارة الإسعاف.. شعر بأن هناك أملا فى النجاة.. أسرعت السيارة وهى تطلق صوت سرينتها كأنها تولول.. هدأت سرعتها.. بعيون بالكاد ترى.. شاهدا مكان شوارعه متهالكة.. مياه المجارى طافحة فيها.. شعر بروحه تنسحب منه وببرودة تسرى فى جسده.. لحظات و توقفت السياره وأنزلوه..
تجمعت حوله العديد من الممرضات.. آخر شىء رآه كانت ملابسهم.. لم يستطع أن يميز إن كانت بيضاء أم رمادية.. لم يبق له إلا ما يسمع.. نادواعلى الدكتور عادل بسرعة.. شوفو لنا كانيولا.. ما فيش.. طيب دورى يا فايزه على واحدة فى قسم الجراحة.. بيقولوا إن العربية اللى عامله الحادثه مرسيدس شبح.. اهتموا بيه يا جماعة ده باين عليه بيه كبير.. بيه ولا مش بيه.. هنعمله أيه يعنى.. زيه زى غيره.. هذه كانت آخر كلمات سمعها..
أحس بآّلام هائلة كأنه ينشق إلى نصفين.. فجأه سكنت جميع الآّلام.. أصبح يرى كل ما يحيط به من مكان عال.. شاهد جسده ممددا بلا حراك.. ملابسه ممزقة تكسوها الدماء والتراب.. رأى شخصا يبدو كطبيب ذقنه نابتة وشعره منكوش يلبس بالطو كان لونه أبيض.. أنتو بس ماواركوش إلا الإزعاج.. نادهنلى على راجل ميت.. بلغوا المعاون وابعتوه التلاجة لغاية ما يبان له أهل يستلموه..
أدركت روحه أن صاحبها قد مات.. قالت لنفسها.. معقول.. المليارات اللى عنده ويترمى الرمية السودة فى مستشفى زى دى.. ده عمل اللى عمله طول عمره علشان يهرب من الفقر والهم.. هرب من أن يكون مصيره كمصير أبو السيخ.. معقوله كل الفلوس دى وفى الآخر أخد السيخ زيه زى غيره!.
وجدت روحه نفسها تصعد بسرعة إلى السماء.. ارتعدت خائفة.. كان آخر شىء ترامى إلى سمعها.. صوت تلاوة آتية من مذياع مقهى.."فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة