معصوم مرزوق

نشرة أخبار التاسعة

الأحد، 16 مايو 2010 07:25 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أعرف عم فرج منذ أن تفتحت عينى على الحياة، وهو كما هو، نفس الشعر الأجعد المترب، نفس العينين الضيقتين الغائرتين خلف عظام الوجنات البارزة، نفس الفك المنكمش الذى تتناثر فيه شعيرات مدببة، وفم لا تبدو منه سوى سنة واحدة فى المنتصف تقريباً، حين يبتسم، وقلما يبتسم.. سنة واحدة عريضة ملونة.. نعم ملونة !!.. فى الجزء السفلى منها الملتصق باللثة لون أسود، يعلوه مباشرة لون بنى غامق متسخ، والباقى عبارة عن لون برتقالى أو أصفر أو أخضر، بحسب آخر وجبة يكون قد تناولها.. ولأنه يعز الملوخية، فاللون الأخضر يكون غالباً.

ولكنه يحب الفول بالزيت الزفر أيضاً، مع الكثير من البصل والمخللات، يلتهم الصحن بأربعة أرغفة يبتلعها فى ثمانية حركات متتالية وسريعة وكأن أحداً على وشك أن يختطفها منه، فهو يكور نصف الرغيف على شكل " ودن قطة "، ثم يغرسه كالجاروف فى الغموس، ومنه إلى فمه ... وبعد أن ينتهى من طعامه، يمر براحة كفه الأيمن على بطنه وكأنه يدلكها، ويتجشأ بصوت مرتفع، ثم يرفع نفس اليد عن بطنه كى يحشر سبابته فى فمه وهو يلوكها يميناً وشمالاً حول سنته المنفردة وهو يمتص ويبتلع ما تبقى من فتات فى حلقه..

ومنذ طفولتى كنت أراه بنفس المعطف الكاكى ذى الأزرار النحاسية المطفأة، يرتديه فوق جلباب أسود أو رمادى، وينتعل حذاءاً برقبة من أحذية الجيش، وبمرور السنين تدهورت حالة هذه الملابس، ولكنه لم يغيرها، بل أنه كان شديد الإعتزاز بها، يقول عن معطفه :
"بذلتى فى حرب 48.. مع عبد الناصر فى الفالوجا "، ثم يضرب جبهته بكفه الأيمن قائلاً :
" قلت لهم ما فيش داعى للهدنة ما سمعوش الكلام.. يا ريتهم سمعوا كلامى !!"، يغمض عينيه وكأنه يعتصر ذكرياته ويقول لمن حوله: "أنا شفت البطل أحمد عبد العزيز، والفدائيين.. كنا سننتصر لولا الخيانة".

كنت مع أصدقائى نتجمع حوله أحياناً كى يحكى لنا، ونشاغبه بالتشكيك فى رواياته، وأحياناً كان يثور ويشتمنا ويهرول خلفنا بعصاه وهو يقول: "يا أجيال خايبة وطرية يا ولاد ..... "، وكنا نضحك، ولكننا نعود إليه فى يوم آخر فيقبل علينا وكأن شيئاً لم يحدث، ونستدرجه كى يحكى لنا فيحكى، ولكنه كان دائماً شديد الانتباه عندما تقترب الساعة من التاسعة مساءاً، حيث يهرول إلى المقهى باهتمام شديد كى ينصت إلى نشرة أخبار التاسعة، وويل لمن يتكلم أو يحدث أى ضجة أثناء ذلك، حيث ينقض عليه عم فرج بأحط الشتائم، وقد يتطور الأمر إلى تشابك بالأيدى.

كنا أحياناً نسأله عن سر إهتمامه بنشرة التاسعة على وجه الخصوص، فيرفع ذقنه ويغمض عينيه وتنبسط أساريره، ثم يغمغم وكأنه يحلم: "أنا مستنى خبر.. خبر مهم جداً "، ولكنه كان يرفض دائماً الإفصاح عن هذا الخبر المنتظر، يهز رأسه بشدة وهو يقول : " الخبر ده يا أولاد ها يغير حياتى.. ها يغير حياتكم كلكم، أصبروا وها نسمعه سوا ".. وأنتظرنا معه طويلاً، ونحن نتعجب من هيئته أثناء تلاوة نشرة الأخبار، فهو يسكن تماماً، يوجه أ ذنه اليمنى فى اتجاه المذياع، وما أن تنتهى النشرة حتى تبدو على وجهه ملامح الغضب والتبرم، ويصبح سيئ المزاج، فيشتم النادل ويتعارك مع الذباب، وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة.

كان عم فرج ظاهرة من ضمن ظواهر طفولتنا، وأستمر نادرة نتذكرها على مر السنين بعد أن غادر معظمنا حى العباسية وفرقت بيننا ظروف الحياة، كل ما كنا نعرفه عنه أنه يعيش فى بدروم إحدى العمارات فى الميدان، ويعمل كل شيئ تقريباً، فهو بواب نفس العمارة، وهو نجار وميكانيكى وعامل نظافة، بل وأحياناً يتطوع لتنظيم المرور حين يختنق الميدان، لم نعرف له زوجة أو أولاداً أو أقارب، لم تكن له أى عادات مستقرة، فهو لا يدخن ولا يشرب ولا يستقر فى مكان إلا تواجده فى المقهى فى أوقات مختلفة كى يشرب كوباً من الحلبة الحصى، ويقرأ فى صحيفة قديمة، الشيئ الثابت فيه هو إهتمامه الغريب بنشرة التاسعة مساءاً.

منذ يومين التقيت مصادفة مع أحد أصدقاء الطفولة فى النادى، تحدثنا عن الأولاد الذين كبروا، والمشاكل اليومية، ثم عدنا لبعض ذكرياتنا، وبطبيعة الحال تذكرنا عم فرج، وفوجئت بصديقى يخبرنى أنه لا يزال فى نفس المكان، واتفقنا على الإلتقاء فى اليوم التالى والتوجه سوياً إلى العباسية.

كم تغيرت العباسية !!.. تلك الضاحية الجميلة ذات الحدائق الغناء، أكل عليها الزمن وشرب، وكأن عاصفة هوجاء قد حملت إليها الفوضى والتراب وسوء الأخلاق، ورغم أن الوقت كان مساءاً إلا أن الميدان كان مزدحماً بالسيارات من كل نوع، وعربات الكارو والباعة الجائلين والأطفال.

توجهنا إلى المقهى القديم، فوجدناه بدوره قد فقد رونقه، إلا أننى كدت أتصلب فى مكانى، فقد كان هناك فى نفس الركن الذى اعتاد أن يجلس فيه قبل عشرات السنين، بنفس الهيئة والملابس.

اقتربنا منه وألقينا عليه السلام، فرفع رأسه إلينا مندهشاً، بينما كنا نجذب مقعدين كى نجاوره، بدا متحفزاً وهو ينقل عينيه الضيقتين بيننا، وأوشك أن يفتح فمه حين قال له صديقى متبسماً : " ألا تذكرنا يا عم فرج ؟ ".. ثم حكى له بعض صفحات طفولتنا وأسماء بعض من ماتوا.. كنت أدقق فى ملامحه مذهولاً مما أراه، فالزمن لم يغير فى هذا الرجل شيئاً، سوى بعض خطوط التجاعيد البسيطة تحت جفنيه، وتعرق يديه بشكل واضح، ولكنه هو كما هو دون تغير.

استدرجناه كالعادة حتى انساق وطفق يحكى عن فلسطين والفالوجا وعبد الناصر والأسلحة الفاسدة والهدنة والخيانة.. سألته عن رأيه فى حرب 67 وحرب 73، ولكنه عاد للحديث عن حرب 48، وكأن زمنه قد توقف عند هذه الحرب، سأله صديقى عن الأوضاع الحالية، فهز رأسه وهو يحكى عن أيام كان صحن الفول بقرش تعريفة، يكفى أسرة كاملة، وعلى مقربة منا كان بعض الشباب يجلسون وهم يهللون ويحدثون ضجة هائلة، فالتفت عم فرج إليهم وهو يشتمهم بأقذع الألفاظ ويبدى التأهب للنهوض بينما كانوا يضحكون ويقول له بعضهم : " يا اخى خليك فى الفالوجا وسيبنا فى حالنا "، وتطورت المسألة رغم تدخلنا، حيث اندفع نحوهم وهو يقذفهم بالطوب فهرولوا بعيداً عن المقهى، نظرت إلى صديقى وضحكنا، فعلاً لم يتغير الزمن.. كان ذلك بالضبط يحدث معنا قبل عشرات السنين.

عاد إلينا عم فرج وهو يلهث، وجلس مصفقاً بيديه كى يستدعى صبى المقهى، وما أن حضر حتى أمره أن يرى ما نطلبه، ولم ننجح فى الرفض فقد أصر على أن نشرب شيئاً على حسابه، وهو يغمغم : " الاشيا معدن والحمد لله.. لازم تشربوا على حسابى".

لقد تآكل معطفه الكاكى، وتمزق حذاء الجيش الضخم وحال لونه، إلا أن نفس البريق العجيب كان يتألق فى عينيه الضيقتين، ونبراته الحماسية لم تفقد حرارتها، وكان يتحدث عن شباب اليومين دول وخيبة الأمل فيهم، عن قلة الحياء والأدب، عن القذارة , و ... مرة واحدة قفز من المقعد مندفعاً إلى داخل المقهى بين دهشتنا، طلب بخشونة أن يصمت الجميع وهو يطلب رفع صوت المذياع ... نظرت إلى الساعة ... كانت التاسعة مساءً.

• عضو اتحاد الكتاب المصرى.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة