إذا عز عليك إدراك ذهنية النظم الاستبدادية فى أرجاء المعمورة بحكامها وسدنتها وخلصائها المخلصين، فى عدم التخلى طوعاً عن قيراط واحد من مكاسبهم الجمة ببلدان يحكمونها ويتحكمون فى أرزاقها، فخليق بك أن تلقى نظرة إلى عهد الصبا، يوم كنت وأصحابك من أبناء الجيران تتحلقّون برقعة كرتونية مكتوب عليها أسماء للعواصم والمدن، وتحكم السير فيها قواعد وشروط تفضى إلى إثراء بعض اللاعبين وإفلاس البعض الآخر فيما يعرف بلعبة "بنك الحظ".
تقول لى: وما لهذا اللهو البرئ بدنس السياسة وخبث بواعثها وغاياتها؟ أقول لك اصبر وتأمل.
فقد كان اللاعب الماهر المجدود يشيد الأسواق والبنايات التى يفرض بها مكوساً وضرائب على سائر اللاعبين، حتى يتجمع له من حصيلة البنك ما يجعله يفرض شروطاً مذلة على رفقاء اللعبة، فتكون العاقبة إحدى لطيفتين، إما أن يضج المهزوم ويعلنها مدوية متمردة ببراءة الأطفال "مش لاعب" ثم يولّى ولا يعقّب، وإما أن يطالب بإعادة توزيع الغنائم قسمة عادلة، فتعود له حماسة اللعب وفرصة البقاء فوق الرقعة، وكثيراً ما يطيب لصاحبنا المنتصر هذا الحل الذى يعيد للّعبة تألقها بعد أن مل الانفراد بالسطوة، ومل زملاؤه فقدان الرجاء.
كذلك شأن نظم الاستبداد فى العالم يا صاح، فقد تجمّعت لديها كل الخيوط، وظفرت بكعكة الحكم كاملة لا تمنح منها إلا من أرادت وأراد لها مزيداً من الاستبداد.
أتراها ملقية بتلك الغنائم أو ساعية إلى إعادة بعضها لسائر اللاعبين؟ أترى نزعة الأطفال الطيبة إلى اللعب، وحرصها على ألا يفارق الصاحب المغلوب رقعة البنك مهزوماً، تنال من قلوب تلك الشلة التى لا يضيرها إن رحل كل اللاعبين ولم يبق فى البلاد إلا هم وزبانيتهم؟ أنا لا أظن هذا، ولا أحسب المستبدّين يثنيهم طمعهم عن الاستمرار فى حصد مكاسبهم الزائلة.
ولأن لعبة السياسة ليست كأى لعبة، ولأن طبائع الاستبداد قد غادرت منازه الطفولة منذ زمن بعيد، فلن يستنقذ المغلوب حظه من اللعبة إلا أن ينتزعها انتزاعاً من أيدى الغاصبين، ويقيمها على قواعد جديدة لا تسمح للظافر أن يستبد ولا تدفع بالمنهزم خارج البلاد.
• خبير اقتصادى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة