عندما تموت السياسة، وفى ظل غياب الإنجازات، وفى حضور الفساد وغلبة قيم الفهلوة، اخطف واجرى، وما تغلب به العب به، ومع تراكم المشاكل وتفاقمها بدون حل، يكون الحل أن يخرج علينا عفريت العلبة يثير استغراباً فنقاشاً فخلافاً فشقاقاً، ففرقا متصارعة، وننقسم بين مؤيد ومعارض، ومختلف ومتفق، وناس مع ما يجرى، وناس ضده، وبعضنا مع هذا الفريق، وبعضنا ضدهم، حتى إذا اختلط الحابل بالنابل ولم يعد أحدٌ يدرى حقيقة ما يجرى، يدخل العفريت العلبة تحت الطلب فى أى وقت، خاصة فى أوقات الأزمات والخيبات الكبرى المتلاحقة، جاهزا دائما كى يعود ليمارس مهمته من جديد، ويعود الناس للمرة الألف بعد المليون إلى القصة نفسها يتناقشون ويختلفون وينقسمون إلى أفرقاء، وتتوه الخطوط الفاصلة بين الرأى الذى هو لوجه الله، وبين الرأى الذى هو لمصلحة صاحبة وعلى هواه. كان هذا هو الموجز وإليكم بعض التفاصيل، وإن شاء الله يمكن أن نعود إلى تفاصيل أخرى فى مرات قادمة إن أحيانا الله.
آخر العفاريت التى يجرى استحضارها للقيام يدور الإشغال والتلهى فى غير ما هو مفيد، خرج مع بروز قضية كتاب ألف ليلة وليلة، جهة تريد إعادة طبع الكتاب، وعلى الطريقة القديمة فى الدعاية السوداء للأفلام يجرى اختراع قصص حب وقصص طلاق، وينشرون أخباراً مثيرة حول علاقة البطل بالبطلة، وعلاقة البطلة بأبيها أو بأمها، كل يوم قصة، وكل يوم خبر، حتى ينتهى تصوير الفيلم، وتكون الدعاية قد فعلت فعلها فى أن يبقى الناس مشدودين إلى أبطاله بتلك القصص المفبركة، فإذا عرض على الشاشة توافد على مشاهدته ألوف الناس، على هذا المنوال غزلت وزارة جهات وزارة الثقافة طريقتها فى التعامل مع قرار إعادة طبع كتاب ألف ليلة ولية، فتسربت إلى الناس بعض نصوصه التى طبعت قبل ذلك بدل المرة ألفاً، وأحصيت الكلمات التى قيل إنها بذيئة، وتعالت صيحات الجهاد ضد الكتاب والقائمين على طبعه، وتطلع علينا مطالبات بالمصادرة، ويبادر الجمع إلى الانقسام بين مؤيد لإعادة الطبع وبين رافض، ويختلط التراث بلعب الصغار، وتتداخل قضايا مهمة فى قضايا تافهة، وتتلقف الفضائيات الموضوع وتلوكه كل يوم كلاماً وتقتله بحثاً، وتستدعى لمناقشته كل من هب ودب، وفى كل مرة يظهر الساعين إلى الشو الإعلامى فى الصورة، لا يهمهم إعادة طبع الكتاب ولا مصادرته، كل ما يهمهم إعادة تواجدهم على ساحة الشغب العام ليبقوا فى منطقة الضوء، ويدخل فى الموضوع ناس من ذوى النوايا الحسنة، ويتعنتر البعض فيعلن أنه على استعداد لأن يدفع حياته ثمناً للدفاع عن التراث، وننسى أننا أصبحنا جميعاً فى خضم خلاط كبير يقلبنا ويعتصرنا نقطة فنقطة لكى لا تقوم لنا قائمة فى يوم من الأيام.
ولستم فى حاجة إلى التذكير بقضية المستشار مرتضى منصور والإعلامى أحمد شوبير التى ما إن تنطفئ جذوتها حتى يعاد إشعالها من جديد بملابسات جديدة، وقصص متداخلة، وعلاقات غريبة، وتتشعب إلى عشرات القضايا فى المحاكم، حتى صارت مثل أنفلونزا الخنازير تصيب كل من يقترب منها فى مقتل، حتى وصلت "مصر النهاردة" فكادت تعصف بالبرنامج وأحد أهم مقدميه المحبوبين جماهيرياً، وكادت نيرانها الصديقة تشتعل فى جلباب الشيخ خالد الجندى، ليصدق عليه هو ومحمود سعد المثل المصرى الجميل: ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه.
كل فترة قضية تافهة تطفو على السطح فتصبح هى حديث المدينة، وتصبح هى قضية القضايا، وتصبح هى الشغل الشاغل، وتصبح هى قطعة الأفيون التى جعلونا ندمن وضعها تحت لساننا نلوكها لتعطينا هذا الإحساس الباهت بأن مزاجنا عال العال، ويبقى كل شىء على ما هو عليه، فإذا فرغنا من قصة اخترعوا أخرى مثلها، أو أنقح منها، لندخل الدوامة نفسها، ونقوم بأدوارنا التى قمنا بها من قبل عشرات المرات، ونتوه ويتوه منا الطريق إلى المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة