بعد يوم حافل بالمشاهدة على برامج "التوك شو والتى امتلأت عن آخرها بمشاهد الاعتصامات والإضرابات والمواجهات الدامية بين الأمن والشعب.. والتلاسن اليومى بين أعضاء الحزب الوطنى وأعضاء المعارضة.. وصور الغلابة الموجعة الذين أنهكتهم لعبة السياسة الدامية بين الأباطرة والقياصرة الجدد.. وأخرجوهم من اللعبة جائعين.. مشردين.. محبطين..كارهين للحياة والزمن والوطن.. جلست وحيدا طوال الليل وهذه المشاهد تطاردنى وتعزف على أوتار قلبى لحن حزين أدمى أوصالى من الداخل وأبكى الدماء فى عروقى.. وسألت نفسى: هل هذه هى مصر التى قرأنا عنها فى كتب التاريخ؟.. هل هذه هى مصر بلد الحضارة ومهد الجهاد ومنبر العلم؟.. هل هذه هى مصر التى ذكرها الله فى قرآنه وعاش فيها يوسف وهرب إليها عيسى وأثنى عليها محمدا؟
حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة بنفسى ولكنى لم أستطع.. فلقد أصبحت لا أفهم شيئا .. ولا أعيى ما يحدث.. كل الأوراق اختلطت.. وكل الموازين اختلت.. حاولت ثم حاولت ثم حاولت أن أبحث عن الإجابة، ولكنى لم أجدها عندى أو عند من حولى.. وفجأة سألت نفسى، ولماذا لا أسألها هى؟.. لماذا لا أستحضر روحها لأسألها عن حالها؟ لماذا لا أسأل مصر ذاتها؟.
واستحضرت روحها وظهرت لى بصورة غير الصورة التى رسمتها لها فى خيالى وعقلى وقلبى على مدار عمرى.. حضرت إلى عجوز منهكة برداء أسود.. عابثة حزينة.. عيناها مرهقة من كثرة الدموع.. يداها ترتعش من أثر الزمن.
أفزعنى شكلها.. لم أصدق أنها هى.. ولكنها بادرتنى قائلة وكأنها قرأت أفكارى واستشعرت إحساسى.. لا تندهش يابنى.. أنا فعلا هى ..لا تستغرب على حالى.. أعلم أننى كنت أميرة متوجة ولؤلؤة جميلة تزين تاج الأمم.. أعلم أننى كنت عزيزة وشريفة وغنية.. أعلم أننى كنت عظيمة ومهيبة وقاهرة.. أعلم أننى كان لا يجوع لى ولد ولا يجرؤ على إهانتى أحد. فبادرتها بالسؤال: ولكن ماذا حدث؟.. ما الذى حولك هكذا إلى عجوز شمطاء؟
فأجابتنى بعيون دامعة وقلب يعتصره الألم .. الحزن يا ولدى.. الحزن قصمنى.. الحزن على حالى وحال أبنائى.. فما بالك بأم سحقوها.. بعروس سعيدة اغتصبوها.. بغنية سرقوها.. بعزيزة أذلوها.. ما بالك بأم ترى أبناءها جوعى ومشردين وفاقدين للأمل والزمن.. ما بالك بأم ترى فلذة كبدها يسحل ويمثل بجسده على يد الأغراب.. ما بالك بأم ترى أبناءها خدام فى باقى الأوطان .. ما بالك بأم ترى الدمعة فى عين الوليد والحسرة فى عين الشريد.. ما بالك بأم كشفوا سترها وستر بناتها.. ما بالك بأم نهشوا لحمها وشربوا دمها ودقوا عظامها.
ألا تريد بعد كل هذا ألا أحزن ويقتلنى الحزن والحسرة وتسرى الشيخوخة فى أوصالى.. مازالت أسمع يا ولدى أغانيكم عنى فى أعيادكم.. أتعلم يا بنى ماذا أفعل عندما أسمعها؟.. فقلت لها: ماذا؟ فردت بكلمة واحدة وقالت: أبكى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة