ذات يوم تغيب " فيروز" عامل البوفيه البنغالى الذى يزودنا بالشاى والقهوة على مدار ساعات عملنا، وعندما سألنا عن السبب، كانت الإجابة أنه ذهب ليدلى بصوته فى انتخابات رئاسة الحكومة البنغالية، وساعتها نعينا حظنا نحن الجالسين على المكاتب من المصريين، لأننا مستبعدون من المشاركة فى ما يدور فى بلدنا، والذين اختصرت كل علاقتنا بها فى اعتبارها جهة إدارية تمنحنا الأوراق الممهورة بخاتم النسر الشهير، أى فى استخراج تصاريح العمل أو تجديد جوازات السفر" مقابل رسوم هى أقرب إلى الجبابة من كونها رسوما مقابل خدمة"، أو تختصر علاقة بلدنا بنا فى نظرات الريبة والشك التى لا تستطيع أن تخفيها ابتسامة مفتش الجمارك المدرب على اكتشاف زيغ نظرات من يحاول تهريب "مروحة" فى طيات ملابسه.
أليس الأمر يبدو مثيرا للبؤس إلى أبعد مدى، حينما يستطيع العامل البنغالى- مع احترامنا لكل المهن والأعمال طالما كانت شريفة- اختيار رئيس دولته بمحض إرادته ، ولا يستطيع مصرى بدرجة مستشار قضائى كبير، أو عالم بحجم أحمد زويل نفاخر به شعوب الأرض أو طبيب بحجم الدكتور مجدى يعقوب أو مصطفى السيد، أو الآلاف غيرهم من العلماء والمهندسين والخبراء، اختيار رئيس بلدهم!.
الحقيقة أنه ليس البنغالى فقط من يذهب إلى سفارة بلده للإدلاء بصوته، إنما الخادمات الهنديات والفلبينيات والسريلانكيات وغيرهن، وكل العاملين هنا من كل دول العالم، ولكن ثمانية ملايين مصرى يعملون فى الخارج - هذا الرقم هو الحد الأقصى لعدد المصريين فى الخارج الذى ذكره مساعد وزير الخارجية المصرى للشئون القنصلية السفير محمد عبدالحكم فى المؤتمر الصحفى الذى عقده فى السفارة المصرية فى الكويت ظهر يوم أمس الأول الاثنين– منهم على الأقل من ستة إلى سبعة ملايين لهم الحق فى الإدلاء بأصواتهم لا يستطيعون فعل ذلك!
لقد تحدث مساعد وزير الخارجية، على عادة كل المسئولين المصريين، بدبلوماسية شديدة ورقة أشد عن الحب والاعتزاز الذى تكنه الحكومة المصرية للمصريين العاملين فى الخارج، ولكن حينما توجه أحد الزملاء الصحفيين بسؤال له عن السبب الذى يحول دون السماح للمصريين فى الخارج بالتصويت فى الانتخابات العامة، قلب له ظهر المجن، أو بالبلدى أظهر له الوجه الآخر، ورد فى إجابة مقتضبة بأن الدستور لا يسمح، وعندما رد زميل آخر: ليس فى الدستور ما يمنع ذلك، أقفل باب النقاش فى موقف كانت تعوزه الدبلوماسية، وتخطاه محتدا: اللى بعده.. اللى بعده، فما كان من الزميل إلا أن غادر القاعة برغم أن هذا الزميل ليس معارضا ولا هو برادعى الهوى، إنما يريد أن يصوت فى الخارج لصالح النظام القائم ولا يريد أن يرى لسواه بديلا.
ألم تفكر الحكومة فى أن يكون لها مناصرين فى الخارج يريدون أن يصوتوا لها، خصوصا أن هناك كثيرين طالبين القرب و يريدون أن "يناسبوها"، أم أنها مصرة على أصوات الصامتين فى زينهم والغفير والدراسة والإمام الشافعى والبساتين؟.
بالطبع مساعد وزير الخارجية ليس مخولا بالإجابة على مثل هذه الأسئلة، ولكن بإمكانه أن ينقل ما يجيش فى صدور المصريين فى الخارج، ويبلغ المسئولين فى مصر أن الناس كفوا عن السؤال عن قيمة الجمارك على المراوح أو التلفزيونا ت أو السيارات، ولكنهم يسألون عن حقهم فى تقرير مصير بلدهم، لعل هؤلاء المسئولين يحسون بأن ثمة حركة تدور حولهم خارج مصر، ولكن هل هؤلاء المسئولون مستعدون لمناقشة ذلك، وهم الذين يكسرون "قلة قناوى" خلف كل مصرى يغادر مصر برا أو بحرا أو جوا، ويدعون فى سرهم بأن يتكفل به البحر الأحمر، والذين أسهموا بفضل سياساتهم العبقرية فى تسطير أعظم سفر للخروج من مصر فى العهد الحديث.
يا سعادة السفير أبلغ المسئولين أننا عاوزين حقنا في"السندوق"، وياريت متفهمناش غلط وتفتكرأننا عاوزين نقسم، نحن نريد حقنا فى"السندوق" الانتخابى، قبل ما نودع الفانية.
* صحفى مصرى مقيم فى الكويت
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة