لوبى جديد ظهر فى حياتنا الثقافية، يتكون من المدعين، والمتبطلين فى هيئة قصور الثقافة من جهة، والجامعات الإقليمية والصحافة من جهة أخرى.
لا شك أن الهيئة تلعب دوراً هاماً فى حياتنا. ولأن هذا الدور متشعب ومتعدد فقد أصبح لها أخطاء كبيرة ومتعددة أيضاً. فمنذ تطلعت إلى الأكاديميين من جهة والصحفيين من جهة أخرى، لتستعين بهم فى أداء رسالتها وهى ضالعة، دون أن تدرى، ثم وهى تدرى بعد ذلك، فى صنع وتغذية هذا اللوبى.
لن أتحدث عن أخطاء مثل التفرقة بين أدب الأقاليم وأدب العاصمة، ولاعن التكريس لهذا بأشكال مختلفة، حتى بدا الأمر وكأنها ترعى حرباً أهلية
لا.. بل أتحدث هنا عن هذا اللوبى الذى يتكاثر مثل الفطر، وينتشر كالسحب السوداء، ففى كل مؤتمر من مؤتمرات أدباء الأقاليم أو "الأدباء فى الأقاليم" تجد هذا الفيلق من الصحفيين جنباً إلى جنب مع "نقاد التراحيل" من مدرسى الأدب بالكليات الإقليمية، ولا شك أن تكرار ذلك على مدار العام قد صنع علاقات حميمة بين الأطراف الثلاثة، الأمر الذى جعل الوجوه هى هى تتكرر فى كل مؤتمر.
موظفو الهيئة معذورون، فهم كموظفين محنكين يعرفون أن معايير نجاح المؤتمر، أولاً وثانياً وثالثاً هى المديح العالى فى الصحف، والمديح لا يتأتى بالطبع إلا بإراحة الصحفيين وإرضائهم! أما رابعاً وخامساً وسادساً (من باب الاحتياط) فهى طبع بعض الدراسات عن بعض الكتاب. ولأن الدراسات الجادة نادرة مثل الجنية المخروم فقد تغاضوا عن القيمة فى سبيل السرعة من جهة، ومراعاة لضآلة البند المالى من جهة أخرى!
هكذا تكون اللوبى، وهكذا راحت الهيئة تغذيه، فما من شهر من شهور الله إلا وهناك مؤتمر، أو مهرجان، أو ندوة، أو محاضرة، أو ما شئت من أسماء، وهو ما جعل "ناقد التراحيل" إذا ما أشرق عليه الصباح، وغسل وجهه، ونظر إلى نفسه فى المرآة استبشر مبتسماً وقال " يا ترى هنكتب إيه عن مين النهاردة؟"
وهكذا أصبح من الممكن إذا ذهبت إلى موقف عبود أن تلتقى بمصادفة ضرورية بأكثر من واحد من هؤلاء، مبحِّراً أو مقبِّلا، أو مشرِّقاً إلى سيناء ستتبادل معهم التحية، مثلى، فهم أصدقاء، سيقول لك أحدهم: لقد ضغطوا على.. وسيحاول أن يبدو كأنه شهيد الواجب. ستشعر بأنهم منكسرون وأنهم كانوا يفضلون ألا يراهم أحد، وستقول فى نفسك "اللهم لا تجعلنا من قطاع الأرزاق"، لقد جاءتهم الدعوة إذن وهم لا يرفضون، على العكس يشعرون بالإهانة أو الغبن إن تجاهلهم أحد، ولهم طرق فى تذكير المسئولين بهم ليس أهمها الحج إليهم مرة أو مرتين أسبوعياً فى مقر الهيئة.
جاءتهم الدعوة إذن، ولأن الوقت ضيق جدا، بين سفرة وسفرة، فهم مضطرون لإلقاء نظرة فى الميكروباص أو القطار على الكتاب الذى سيناقشونه، ولأنهم أكاديميون فهم يجدون دائماً عبارة ما أو مفتاحا ما، فإن لم يجدوا ناقشوا الغلاف! المهم سيجدون دائماً ما يفرزون حوله لعابهم صانعين لؤلؤةً مزيفة يقدمونها بحنكة الجواهرجى، على قطيفة من المصطلحات، مدشنين فى حياتنا ثقافة جديدة هى ثقافة الإشاعة.
وبالطبع، ومراعاة لاستكمال اللوبى، وخلق الحائط الرابع فى هذا المسرح العبثى، ستكون الكلمات طبطبة على نرجسية الكاتب الإقليمى الغلبان، الذى تورمت لديه عقد الاضطهاد، طبعا، فما الذى سيجنيه نقاد التراحيل إذا ما تركوا وراءهم عداوات؟
إنهم أذكى من هذا فهم يراعون حرمة الدعوة القادمة، بل وربما يتفقون عليها وهم يودَّعون وداعاً حاراً على رصيف القطار.
هكذا يمكن لنقاد التراحيل أن يقضوا ثلاثة أشهر من العام فى فنادق "منجمة" آكلين شاربين مسرورين بمنافقة الكتاب لهم، متحركين بينهم كنجوم السينما، وهو ضعف إنسانى تتكرم الهيئة بدفع فاتورته ومكافأة النقاد عليه، ما علينا!
المهم أنه فى نهاية العام سيجد الواحد من هؤلاء أكداسا ً من الأوراق التى انفجرت عليها قنان الحبر، فيأخذ فى توفيق هذا مع ذاك، وتلفيق هذى مع تلك، صانعاً كتباً بعناوين "تخض"!، ومرة أخرى ستتكرم الهيئة، صانعة اللوبى، بطبعها، فيتمكن الناقد من الترقى بها فى كليته الإقليمية أملاً فى الصعود إلى شريحة أكبر!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة