من حين لآخر تثار قضية مدى صحة نشر أعمال أدبية رفض الكاتب نشرها فى حياته.
القضية قديمة وشائكة لكن بعض النقاد يحلونها ببساطة باعتبار أن نشر هذه الأعمال والتعامل معها نقديا سيؤدى إلى فهم أعمق بأسرار العملية الإبداعية للكاتب ويمكـِّن من تتبع الطريق الذى سارت فيه حتى وصلت بالكاتب إلى ما وصل إليه من شهرة هكذا نكون أمام دفاع عن حق الناقد فى الوقت الذى لا نجد فيه دفاعا عن حق الكاتب.
بالطبع من أسباب إحجام الكاتب عن نشر عمل من أعماله شعوره بأن عملا بهذا الشكل يسيىء إليه ويحط من مكانته التى وصل إليها عبر خبرته بالحياة والكتابة. تقول إيزابيل الليندى: إن ترجمة كتبى إلى سبعة وعشرين لغة تعنى أنه يوجد كتاب قديم لى يصدر للمرة الأولى فى أماكن مثل تركيا لذلك أجد صحفيين يأتون ويجرون معى مقابلات عن كتاب (ايفالوفا) الذى كتبته منذ أكثر من عشرين عاما مضت!! وبالتالى أتأكد كم أنا أكرر نفسى، فالشخصيات لها أسماء مختلفة لكنها كلها الشىء نفسه!!
هكذا ترى إيزابيل - بوعيها النقدى - المسافة التى قطعتها فى رحلة الإبداع ولولا أن العمل صدر بالفعل، وأصبح ملكا للقارئ، وجزءا من ذاكرته لكانت أخفته أو أوصت بعدم نشره!!
المتعة من أهداف الفن، وإذا سلمنا بهذا فإننى أتساءل: أية متعة فى أن أقرأ لنجيب محفوظ قصة تافهة، أو رواية معطوبة رفض نشرها فى حياته؟! يقول ماركيز فى كتابه الساحر "عشت لأروى" واصفا كيف قرأ (الاستسلام الثالث) وهى أول قصة نشرت له: قرأت القصة مختبئا فى حجرتى بقلب جامح وفى نفس واحد متصل، لقد كنت أكتشف فى كل سطر القدرة الساحقة للكلمة المطبوعة، فما بنيته بكثير من الحب والألم – كمحاكاة خاضعة لعبقرى عالمى (يقصد كافكا) – تكشف لى عندئذ على أنه منولوج متشابك وهش، يستند بمشقة على ثلاث أو أربع جمل تمنح العزاء، كان لابد من مرور عشرين سنة قبل أن أتجرأ على قراءتها مرة ثانية وكان حكمى آنذاك – دون أن تخفف منه الشفقة كثيرا – أقل رضى بكثير".
ثم يعود إلى هذه القصة مرة أخرى فيقول: من أجل أن أبدأ لاحظت أن نقيصتىّ الكبريين هما الأخطر: رعونة الكتابة وجهل القلب البشرى. وقد بدا ذلك جليا فى قصتى الأولى التى كانت تأملا تجريديا مشوشا، زاد من سوءها التعسف المفرط فى استغلال المشاعر المختلقة".
هذه هى الأعمال الأولى - المنشورة - وهكذا يراها كاتب بقامة ماركيز وإيزابيل اللندى، وأتصور أنه لو كان بإمكانهما حذفها لفعلا، ولكن نشر هذه الأعمال جعلها فى مشروع كل منهما، وبالتالى مكـَّن النقاد من التعامل مع هذه الكتابات بالطريقة التى يرونها.
إننى أتفهم ما يقوم به أدونيس من تغييرات فى الطبعات المختلفة لأعماله الكاملة، ولماذا يتدخل فيها بالحذف والتعديل، كأن يصدر طبعة يكتب على غلافها (صياغة نهائية) أو يصدر طبعة يعيد فيها ترتيب القصائد لا كما كانت فى الدواوين وإنما على أساس موضوعى، وكأنه وهو يفعل ذلك إنما يتخلص مما أسماه ماركيز "رعونة الكتابة وجهل القلب البشرى".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة