فجأة.. اكتشف السيد الوزير فاروق حسنى، وزير الثقافة، أن الناس بعيدة عن وزارته وأنشطتها ومهرجاناتها ومنتدياتها، وفجأة أيضا قرر أن يجذبهم إليها وأن يكتشف الخلل الذى يعيق مجالس الوزارة وقطاعاتها وهيئاتها عن تأدية رسالتها، ورغم أن هذه الخطوة تأخرت ما يقرب من عشرين عاما، لكن على أية حال أن تأتى متأخرة خير من ألا تأتى أبدا، الوزير أعلن أن الهدف من إقامته لمؤتمر المثقفين هو البحث عن أسباب انعزال الثقافة عن الناس، وعقد من أجل ذلك اجتماعا أعقبه اجتماعا ومازالت الاجتماعات مستمرة، وبصرف النظر عن الطابع الاحتفالى الذى يحرص عليه الوزير فى معظم أنشطة وزارته، فإن نية عقد هذا المؤتمر اقتربت كثيرا من هم حقيقى يشغل المثقفين ويؤرقهم، فما أقصى أن يكتب المبدع ولا يراه أحد ولا يسمع كلمته أحد، حتى إن الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى منذ أكثر من نصف قرن قال: "يا أيّها الانسان فى الريف البعيد يا من يصمّ السمع عن كلماتنا أدعوك أن تمشى على كلماتنا بالعين، لو صادفتنا كيلا تموت على الورق أسقط عليها قطرتين من العرق كيلا تموت"، وكما أن هذا المؤتمر مهم بالنسبة للمثقفين فهو على نفس قدر الأهمية بالنسبة لمعظم المصريين الذين يتكبدون من عرقهم ميزانية وزارة الثقافة دون أن يستفيدوا منها.
قبل الإفصاح عن محور المؤتمر كان لدى حول الهدف منه، الأول: هو أن الوزير يحاول تجديد البيعة لنفسه من المثقفين بعد هزيمته فى اليونسكو، والثانى هو أن المؤتمر بمثابة "حجة الوداع" للوزير الذى يحيطه الجدل والصخب أينما ذهب، وبعيدا عن هذين التصوريين سأفترض أن مقصد الوزير الحقيقى من هذا المؤتمر هو أنه يريد اكتشاف معوقات وصول الخدمة الثقافية للناس "بجد"، وإن كنت أرى أن السبيل الأكثر فعالية من المؤتمر هو تكليف فريق من الباحثين بهذه المهمة وليس عقد مهرجان جديد يكلف الوزراة وميزانيتها ما لا تطيق، ومن وجهة نظرى هناك العديد من الأسباب التى تحول بين الناس والثقافة بعضها يرجع إلى الوزارة نفسها وبعضها الآخر يرجع إلى حالة اللامبالاة العامة التى نحيا فى ظلها، وهذا أيضا مسئولية الوزارة، كما أن هناك حربا ضروسا تشنها مؤسسات الدولة على "الثقافة" بمعناها الأعم والأشمل، ولا حرج أيضا فى أن نقول إن هناك بعض المثقفين يحاربون "الثقافة" سواء بقصد أو بدون.
أول الأسباب هو تفحل الديكتاتورية وانتشارها فى جميع مناحى حياتنا بدأ من سائق الأتوبيس مرورا بمدرس الفصل فى المدرسة وانتهاء برأس الدولة، والديكتاتورية يا سيادة الوزير كمال تعلم هى العدو الأول لمعنى الثقافة وروحها، وقديما قال أحد عتاة الديكتاتتورية "كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسس مسدسى" وليس الخطر فى وجود الديكتاتورية فى رأس الدولة فقط، بل الخطر الحقيقى هو امتداد هذه الفكرة إلى ما دون الرأس، فيتولد لدى الشعب حالة من نفى الآخر وعدم الاعتراف به، وبهذا الشكل يصبح المجتمع كله "آخر" لا يتعامل مع بعضه ولا يقبله، وإذا كان الهدف الأساسى من الثقافة هو تمكين الفرد من القدرة على التغيير، فالديكتاتورية هى من تحارب هذا التغيير فى مهده، لذا ليس غريبا أن تعيش مصر الآن "عالة" على فترة المد الديمقراطى اللبيرالى لما قبل الثورة، تلك الحقبة التى أنتجت مبدعين ومفكرين ومثقفين عظام أمثال طه حسين والعقاد يحى حقى والقلماوى وعلى عبد الرازق وعبد الرحمن الشرقاوى ولويس عوض ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، وحتى جاهين وحداد والأبنودى وحجازى عبد الصبور، كل هؤلاء تربوا فى أجواء ليبرالية ومع الاعتراف بأن أسامهم الفكرى والإبداعى بدا فى الظهور مع الثورة، إلا أن الثقافة كما يعلم الجميع لا تمنح ثمارها بين يوم وليلة، والدليل على هذا خفوت أسماء مبدعى مصر كلما اقتربنا من مواليد الحقبة الديكتاتورية بداية من الثورة وحتى يومنا هذا.
ثانى الأسباب التى تجعل الثقافة غريبة عن حياتنا وخارجة عن سياقها هو أن خطاب المسئولين "الكبار" لا ينم بأى حال على أنهم مثقفين، ولا أتذكر أنى سمعت كلمة واحدة من أحدهم تكشف عن مستوى ثقافته الرفيعة، بل على العكس تماما ما يتم تصديره للناس تجعلهم يتخيلون أن القيادات السياسية هى الأخرى بعيدة عن الثقافة، وليس أدل على هذا من واقعة سب الدين تحت قبة البرلمان التى كان بطلها وزير كنا نحسبه من عداد الوزراء المثقفين، فإذا علم رجل الشارع أن وزراء حكومته يجاهرون بسب الدين ولا يحشرون ولو بيت شعر واحد أو قول مأثور يدل على اتساع ثقافتهم، فكيف له أن يعرف أن الأدب والشعر والفلسفة ذا فائدة، وإذا كانت الثقافة ليست ضمن مؤهلات هؤلاء الصفوة ولا ضمن "ثقافتهم" فما جدواها، وكيف لرجل لم ير رئيسه ولو مرة واحدة يستشهد ببيت شعر أو قول مأثور أو موقف فى رواية أن يتخذ من المثقفين قدوة أو من الثقافة هاديا، ويشترك فى هذا التجاهل المريب للثقافة كل قيادات الدولة بما فيهم وزير الثقافة نفسه برغم أنه "فنان"، ومن الغريب أن رجلا مثل مانويل جوزيه مدرب فريق الأهلى السابق كان كثيرا ما يستشهد بآيات القران أو بأقوال الفيلسوف الألمانى العظيم "نيتشة" فى حين أن وزراء مصر وقادتها لا يستشهدون إلا بالأفيهات أو الشتائم.
ثالث الأسباب هو الحرب الكبيرة التى تشنها مؤسسات الدولة على الثقافة والمثقفين، والدليل على هذا ما تفعله مؤسسة الأزهر حيال القصائد والروايات وكاتبيها، ففى واقعة نشر قصيدة شرفة ليلى مراد للشاعر حلمى سالم لم يتورع رجال الأزهر وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية عن كيل السباب لسالم ووصفه بالملحد المخمور، بل وصل الأمر إلى تخوينه واتهامه بالعمالة، كما سمحت الدولة لبعض مشايخها أن يلاحقوا الإبداع واللمبدعين بالقضايا والتعويضات، وليس أدل على هذا الترحيب المؤسسى بشيوخ الحسبة من القضايا التى يكسبها الشيخ يوسف البدرى بكل سهولة ويسر، كما لو كانت الدولة تقول له "برافو.. أرفع قضايا أكتر أكيد فيه تعويضات أكتر" والشواهد على هذا الاتجاه كثيرة، وأكثر مما تحصى، بما يستوجب من "الدولة" أن تضع حدا لهذه المهازل المتكررة، التى تساهم بقدر كبير فى اشمئزاز الناس من المثقفين الذين يتم سبهم على المنابر، وجعلهم هدفا دائما للتريقة والاستظراف من كل من هب ودب... نكمل غدا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة