أعترف أنى "نقيت" على نفسى بل وعلى الكثيرين أمثالى، كان ذلك من شهور عدة، وكان سعر كيلو اللحم لا يزال فى متناول اليد، قلتُ وأنا أتضاحك مع ابن عم لى: يعنى لما قدرنا نأكل لحمة بقى عندنا قولون ولازم نعمل حساب الكلسترول، ونأخذ بالنا من الوزن الزائد، قال ابن عمى مغاضباً: ليه وهل كنا لا نأكل اللحمة من قبل؟
تذكرت بيت عمى الذى كفلنى صغيراً، رحمه الله وأرضاه، وقد كان فيه حجرة لتموين البيت، فيها أجولة البطاطس والدقيق والبصل، وشكائر السكر والأرز والعدس، وكانت ربطات الثوم الكبيرة تنتشر على مناور البيت وسلالمه، وكانت أفراخ الدجاج تحدث جلبة صباحية حين تطلع إليها زوجة عمى فكأنها بين أبنائها وبناتها يقبلون عليها ويتحلقون حولها حين تجلس بينهم ويأكلون من يدها حبات الذرة، وكانت تكفينا حاجتنا من البيض واللحم على مدار الشهر، وكانت اللحمة تزور بيتنا كل أسبوع مرة، أو كلما جاءنا ضيف قريب أو نسيب أو مُصاهر..
وكان من آداب بيتنا أننا لا نأكل اللحم إلا فى الآخر، ولم أكتشف ذلك إلا حين دعيت صغيراً إلى بيت من بيوت أقاربى وتركت قطعة اللحم التى أعطيتها حتى أكمل أكلى وآكلها فى آخر طعامى، فلما سألنى مضيفى عن السبب فى تأخير أكل اللحم حرت جواباً، ومن يومها كنت أبادر بأكل اللحم حين توضع أمامى.
كنا نذهب إلى دكان فى أقصى المدينة الصغيرة نشترى منه جوال دقيق، وكنت أفرح حين يصطحبونى معهم فى تلك الرحلة الشهرية إلى دكان الدقيق، كان بيتنا من البيوت التى تعتمد على نفسها فى لقمة العيش، نأكل الخبز من عمل أيدينا، نعجنه ونخبزه فى البيت فى فرن بلدى بنيناه فوق سطوح البيت ذى الطابق الواحد فى تلك الفترة الباكرة من عمرنا، ولما تعبت ربة البيت وعميدته، ولم تعد صحتها تطيق كل هذا الجهد اضطررنا إلى عجن الدقيق فى البيت ثم نذهب به إلى الفرن القريب من بيتنا.
كان فرنا بلديا ولم تكن مهمته قاصرة على خبز العيش وفقط، بل كنا نستخدمه فى إنضاج صوانى متعددة الوصفات والمحتويات، وكان لى فى هذه المهمة شأن كبير، كنت أنا من يذهب إلى المخبز ومعى الصينية أو الطاجن المطلوب إنضاجه وأنتظره حتى يستوى وأحمله ساخناً إلى البيت وبطنى تصرخ من شدة الرغبة فى المشاركة فى التهام محتوياته.
وكنت أنا أيضاً أكثر من يطلب منهم أن يستقدموا طاولات الخبز لكى يملأها أهل البيت بأقراص الدقيق المعجون، ثم أصاحب الفران وهو ينقلها إلى المخبز، وكنت أنا من يحمل معه الأمر المباشر بالعدد المطلوب من الخبز الطرى والعدد المطلوب من الخبز المحمص المقبب، وكان هذا هو خبزى الذى أفضله، فكنت أبدل العدد المطلوب من الخبز الناشف فأزيده، وإذا تكلموا معى كنت أتحجج بأنى نسيت، حتى فطن من فى البيت جميعاً إلى حيلتى وتركونى أفعلها كل مرة، وهم يتضاحكون على فعلتى الصغيرة.
كان الخبز يأتينا طازجاً لا تشوبه شائبة وليس فيه حصى، ولا يعيبه ما يعيب لقمة العيش التى نأكلها اليوم كأنها مخبوزة فى فم كلب، وكان يوم الخبيز عيد لنا ونحن أطفال، وكان فيه العديد من الفطائر، بعضها بدقيق الذرة، ولا زلت أحتفظ فى ذاكرتى التذوقية بطعمه المميز، وكان طعمه لذيذاً، وما زلت أذكر كيف كنا نلتهم فطيرة الذرة مع طبق العسل الأسود بالطحينة فى يوم الخبيز فى بيتنا.
وكنت أنا أيضا من يذهب فى الغالب إلى السرجة البعيدة عن منزلنا لأشترى ملء طبق من العسل الأسود بقرش صاغ ومعه طحينة بتعريفة، وكانت هذه المشاوير تنتشلنى من الانكباب المتواصل على المذاكرة لنفسى أو لمن هم أصغر منى ممن هم فى البيت من أبناء عمى وبناته أو من أبناء الجيران وبناتهن، وكنت أفضل تلك المشاوير على كل ذلك، رغم أنى كنت أقطع فى بعض هذه المشاوير مسافة كيلو مترين أو ثلاثة فى بعض الأحيان.
نسيت أن أعترف لكم أن بيتنا هذا كان من البيوت المستورة، ولم يكن له دخل غير ما يقبضه العم من جنيهات قليلة لا تزيد عن عشرين جنيها بأى حال من الأحوال، وحين عمل ابن عمى الكبير فى السد العالى زاد دخل هذا البيت كثيراً، وأحسسنا كأننا انتقلنا نقلة طبقية كبيرة، حين كان يشارك ببعض مرتبه فى ميزانية البيت الكبير، ولم يكن مرتبه ساعتئذ يزيد عن سبعة عشر جنيها هى مرتب خريج الجامعة وقتها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة