القاهرة فى الخمسينات.. مخرج ومنتج الأفلام المصرية الشهير كايرو جاكوبى، وهو يهودى الأصل يعيش حياة سعيدة فى أزهى عصور السينما المصرية ولكن مع قيام دولة إسرائيل ثم وصول عبد الناصر إلى الحكم، لم تعد مصر تلك الأرض التى ترحب باليهود كما كانت فيما مضى.. الروائية اليهودية بولا جاك،التى ولدت فى القاهرة، تعيد إلى الحياة هذه الفترة المضطربة فى حياة يهود مصر فى روايتها "كايرو جاكوبى"التى صدرت باللغة الفرنسية فى شهر مارس عن دار نشر Mercure de France.
ماذا تحكى هذه الرواية ؟.. نحن على أعتاب العصر الناصرى، فى 26 يناير 1952، قبل ستة أشهر من الإطاحة بالملك فاروق، اجتاحت القاهرة رياح من الجنون أحرقت المحلات التجارية والفنادق وصالات الترفيه ومعظم دور السينما الجميلة فى القاهرة (ريفولى، مترو، ديانا) على يد مجموعات من مثيرى الشغب.
وعلى الرغم من أن النظام قد رجع، وأعيد بناء كل ما دُمر، ومحيت آثار هذا "السبت الأسود"، إلا أن بعض الأمور لم تعد إلى سابق عهدها.. خاصة بالنسبة ليهود مصر، ومن بينهم كايرو جاكوبى، هذه الشخصية الخيالية التى رسمت بولا جاك ملامحها منطلقة من شخصية المخرج اليهودى توجو مزراحى.
بدأ هذا المخرج السينمائى الناجح كايرو جاكوبى، الذى أصبح وهو فى الخامسة والثلاثين من عمره أحد "ملوك السينما فى مصر"، تتقرب منه نجوم الشاشة الفضية وتعشقه النساء، مشوار عمله باختراع شخصية سينمائية أطلق عليها اسم "بلبل بيه" حققت بعض النجاح، ثم سعى إلى إنشاء شركة إنتاج واستديوهات من أموال زوجته "نورما"، وكان جاكوبى يعيش حياة سعيدة فى مصر إلى أن جاء ذاك اليوم بعد تولى عبد الناصر الحكم بفترة، والذى بدأ جاكوبى يعانى فيه من هجوم غير متوقع من صحفى مصرى متعصب فى إحدى الصحف، ما لبث أن تولى رئاسة الرقابة على الأفلام وأصبح يملك حق الأمر والنهى على الفيلم المصرى ربما، كما تقول الرواية، "لتحرير الفن الوطنى من يهود الشرق"، إذ أخذت تُنشر آنذاك مقالات تنتقد التواجد الزائد لليهود فى المشهد السينمائى المصرى وتندد بتدنى مستوى أعمال السينمائيين "الأجانب" التى تسىء أفلامهم إلى صورة مصر الحقيقة لأنها تعرض مشاهد لا تليق بها.
وعلى الرغم من أن جاكوبى كان خائفا من التعرض بدوره للاعتقال والطرد مما يعتبره "وطنه" مصر، إلا أنه رفض أن يغادرها.. فكيف له أن يتخلى عن أحلامه فيها بالمجد؟ وهل يستطيع أن يعيش تحت سماء أخرى "غريبة عنه"؟ وهل يستطيع أن يبدع فى ثقافة مختلفة عن ثقافة مصر؟ لا، هو لا يستطيع القيام بذلك.. فهو يحب "بلده"، ربما "أكثر من أولئك الذين يعارضون حقه فى العيش فيها"، كما تشير الرواية، ومن ثم فقد تشبث بالبقاء لأطول فترة ممكنة حاول أن يقدم فيها للسينما المصرية أعمالا كثيرة.
ويختفى جاكوبى فى ظروف غامضة فى 1957، وبعد خمسين عاما، تحاول كاتبة فى عام 2007 التحقيق فى اختفائه، من خلال جمع شهادات عن مشواره السينمائية وحياته الشخصية من أشخاص عرفوه يوما ما ويعيشون الآن فى واشنطن وباريس وتل أبيب، ويعطى كل واحد منهم وجهة نظره: زوجته، عشيقاته، مساعده "منصور" الذى يرى "إن رحيل اليهود كان خسارة فادحة لمصر.. فعبد الناصر الذى كان يظن أنه ربح بطردهم، قد خسر أكثر مما ربحه، (...) إن البلد الذى يبدأ بكراهية بعض أبنائه يمكنه أن يكره فيما بعد جميع أبنائه"... وتعرض هذه الشهادات صورة اليهودى الذى عاش فى المجتمع المصرى فى الخمسينيات والتى تأثرت حياته فى فترة العلاقات المتوترة بين إسرائيل وجمال عبد الناصر، حيث لم يكن من الجيد أن يكون الشخص منتميا للجالية اليهودية فى ذلك الحين.
تقول صحيفة "لوموند" أن مؤلفة الرواية بولا جاك ترسم من خلال هذا العمل صورة لتلك الفترة التى عاشت فيها آلاف العائلات اليهودية فى مصر قبل أن يضطروا إلى تركها فى الخمسينات والستينات بعد بداية الصراع العربى الإسرائيلى، ومن بينها عائلة مؤلفة الرواية نفسها التى طردت من مصر فى 1957، وعاشت طفولتها فى كيبوتز فى إسرائيل قبل أن تنتقل إلى فرنسا، وتحاول بولا جاك فى جميع أعمالها إحياء صورا لتلك الحياة الدافئة التى كانوا يعيشونها فى مصر آنذاك، متعرضة لمأساة ترك اليهود لمصر.
وتضيف الصحيفة أن بولا جاك تلقى الضوء بالتأكيد من خلال هذه الرواية على معاداة السامية، متهمة حتى الرئيس جمال عبد الناصر بأنه قد أقام ضد اليهود "محكمة لم يسبق لها مثيل فى البلدان العربية أو فى أوروبا منذ أيام ألمانيا النازية".
ويظهر فى الرواية، كما تشير الصحيفة، كيف كان المجتمع اليهودى فى مصر فى تلك الفترة يتميز بقدر كبير من التنوع الاجتماعى واللغوى، وكيف كانت الجالية اليهودية تمتلك معظم كبرى المحلات فى مصر وتضم رجال صناعة وملاك أراضى وصحفيين ومحامين بارزين وأيضا فنانين.
وتلاحظ الصحيفة أن الرواية تحمل بطبيعة الحال بعض الأخطاء، عن الأقباط وفندق "شبرد" وغيرها، وذلك لأنها تدور حول شهادات وهمية جمعت بعد نصف قرن، على الرغم من كونها أيضا تضم بعض الذكريات البعيدة التى حملتها بولا جاك معها من طفولتها واستحضرت بفضلها الحياة التى عاشها اليهود فى مصر.. تلك الحياة التى حملت مذاقا حلوا ومرا فى آن واحد ولم تكن تستحق أن تموت، كما تخلص الصحيفة.
للمزيد من الاطلاع اقرأ عرض الصحافة العالمية على الأيقونة الخاصة به.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة