لا يمكن القول إن جميع المثقفين يستمزجون الحداثة فى الأدب والفن، وفى زيارة لمعرض تشكيلى بالقاهرة أواخر الستينات برفقة صديق كاتب، أخذ يتأمل اللوحات بتمعن محاولا إدراك العلاقة بين الكتلة والفراغ كما يقول التشكيليون، وانتهى به المطاف إلى ترديد قول لناقد فاقد الأهلية تشكيليا: هل تأملت فى حياتك نهرا؟ ابتسمت مستفسرا عن المعنى فقال: كل لوحة فى المعرض تحتاج إلى مذكرة تفسيرية شارحة للرسالة التى يوجهها الفنان من خلال إبداعه حتى يستوعبها المتلقى، هذا إن كان الفن التشكيلى يسعى للوصول إلى عامة الناس من متوسطى التعليم والثقافة، وليس للصفوة من رواد الصالونات فقط، ثم أضاف ساخرا: فى أحد المعارض شاهدت لوحة كانت مجرد مساحة بيضاء عليها دائرة برتقالية اللون، أليس هذا هو لون علم اليابان؟
وهذا يستدعى من الذاكرة حكاية منسوبة لأديب كبير كان يكره الحداثة كراهية التحريم، ويجهر بهذا القول خصوصا عند مشاهدته أى إبداعات تشكيلية، ويروى عنه أنه ثبت لوحة بيضاء على حامل فى حديقة منزله، واستثار حمارا جلبه لكى يضرب اللوحة ضربات عشوائية بذيله المصبوغ بالألوان، وعندما غطت الألوان المتنافرة سطح اللوحة الأبيض، وضعها الأديب فى إطار مناسب وسأل عن رأيهم فيها، فأخذ بعضهم يشيد بهذا الإبداع التشكيلى الذى يعكس رؤية عميقة لانكسار الإنسان فى زمن الحضارة المادية، وفاجأ الرجل الجميع بأن صاحب هذا الإبداع.. حمار!
وصديقتى أيام الجامعة كانت تحب الموسيقى والغناء وتهوى العزف على بيانو ورثته عن أمها، لكنى لم أكن أشاطرها الشغف بالغناء الأوبرالى وأعتبره نبتة غريبة يحاول بعض الأعراب غرسها فى غير أرضها، ولونا من الحداثة الغنائية لا تستسيغها آذان تربت على إبداعات أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز ووديع الصافى، رغم ذلك أصرت على اصطحابى – فى مرة واحدة – لدار الأوبرا المصرية – التى احترقت لاحقا – لمشاهدة عرض أوبرا (لاترافياتا).. الطراز المعمارى للمبنى بمقصوراته وديكوراته وهندسته البديعة كان هو الذى لفت انتباهى واستغرقنى تماما، وعندما سألتنى عن رأيى بعد انتهاء العرض، دفنت وجهى فى راحتيها معترفا بأن ذائقتى تعجز عن التواصل مع الغناء الأوبرالى الذى لا يزيد إبداعه عن نهيق حمار الأديب الكبير!
وعندما رفعت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى لواء التحديث فى الشعر العربى أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، كان مفهوما أن هذا الشعر يتحلل من الالتزام بالقافية ووحدتها، لكنه يمتلك وزنه وموسيقاه الداخلية، رغم ذلك فقد شطح بعض مبدعيه إلى كتابة لون من الشعر المنثور لا يلتزم إلا بمزاج صاحبه، وكتب أحدهم – وقتها – قصيدة قال فيها : وشربت شايا فى الطريق، وهو ما أثار سخرية الشاعر الناقد صالح جودت الذى كان أشد المناصرين للشعر العمودى التقليدى، وأكثر من ناصبوا العداء للشعر الحديث وشعرائه، وربما كان جودت يعتقد أن احتساء الشاى على رصيف مقهى فعل شائن لا يليق إلا بالعامة والدهماء و(صعاليك) الشعراء المحدثين الذين أطلق عليهم اسم: أصحاب مدرسة (وشربت شايا فى الطريق)، وقد يكون الرجل – بحكم انتمائه الطبقى وثقافته– يظن أن الشاى يجب أن يكون موزونا مقفى يقدم صافيا فى أقداح خزفية داخل الصالونات، وليس كمن يمزجونه مع لبن حمارة وزهرة البابونج فى كوب واحد.. مثل بعض شعراء الحداثة!
والمرة اليتيمة التى زرت فيها معهد العالم العربى بباريس صيف عام 1998 قادتنى بالصدفة لمتابعة ندوة حول تحديث الفكر العربى شارك فيها جورج طرابيشى وحسن حنفى وأدونيس وأديب ديمترى وغيرهم.. كانت هذه هى المرة الأولى – وقد تكون الأخيرة – التى رأى فيها أدونيس وجها لوجه وكان عازفا عن المشاركة فى الحديث ومنشغلا بمتابعة الحوار ولحس سيجار ضخم بلسانه.. ربما ليمنحه بعض الرطوبة، فهل كان هذا موقفا حداثيا رافضا لمشروع حسن حنفى فى البحث عن صيغة توفيقية تزاوج ما بين أصالة الفكر العربى وحداثة نظيره الغربى؟ ربما، لكن صديقا صحفيا مقيما فى باريس قال لى عقب الندوة: أدونيس ويوسف شاهين يتماثلان فى البدايات الواقعية العذبة وأيضا فى النهايات التى تحولت إلى إبداع حداثى ملىء برموز شديدة الخصوصية والتكثيف لا يفهمها سواهما!
ولا أظننى منحازا إلى أصحاب: وشربت شايا فى الطريق، أو إلى مدرسة: مكر مفر مقبل مدبر معا، فالشعر الخالص أتعاطاه أيا كانت تصنيفاته، كما لا أستنكر على التشكيليين حداثتهم فى السريالية وغيرها، ويظل الإبداع التشكيلى الصادق فنا يستحوذنى، وحرية الإبداع كلها مكفولة لأدونيس ويوسف شاهين، طالما كان يحرك أوتار القلب ويوقظ الطيور الغافية.. فقط أعتذر لصديقتى عن عجزى – الذى ما زال مستمرا حتى الآن – عن التواصل مع زعيق السوبرانو تيرزاكولين والتينور مارك ميلهوفر.. وتفضلوا شايا!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة