قبل أكثر من خمسة قرون ونصف القرن رأيت النور أيها السيد المبجل على يد المخترع الألمانى يوهان جوتنبرج وبالتحديد يوم 23 أبريل عام 1448فى مدينة ماينز القريبة من مدينة فراكفورت، وكان يوهان قد عمل مثل معظم أهل بلده فى صناعة النبيذ بكبس العنب وعصره، ثم عمل فى عمل مشابه هو صك الذهب، أى كبس الحروف على العملة، ثم عمل بالنسخ إلى أن أضاء عقله إلهام نابع من تجاربه العملية المختلفة.. لماذا لا يطبع الكتابة على الورق بالحروف المعدنية التى يمكن كبسها بنفس طريقة الذهب والعنب؟
أمكنه ذلك بأن وضع صفحة الورق ووضع فوقها الحروف المعدنية المسقية باللون وضغط عليها بلوح معدنى فظهرت الكتابة بأبهى مما تصور، وأسرع يبحث عن طريقة ليتحرك بها لوح معدنى آخر يحمل حروفا أخرى ليطبع ورقة ثانية وثالثة وهكذا.. ثم توالت تجاربه حتى أمكنه أن يطبع أول كتاب فى التاريخ وكان "الكتاب المقدس" وانطلقت شرارة المعرفة وقفزت الإنسانية خلال قرن واحد إلى عالم جديد يستطيع فى يسر أن يقتحم العلوم والفنون وآفاق بلا حدود، ويكفى أن يكون من بينها طباعة الصحف وانتشارها على النحو الذى نراه.
لقد حقق جوتنبرج مجدا ما بعده مجد للبشرية ولمدينة ماينز وأختها الكبرى فرانكفورت التى يقام بها كل عام أهم معرض للكتاب، وسميت أكبر جامعات ماينز جامعة جوتنبرج .
وطوال ربع القرن الأخير وبعد تألق الكومبيتر وشبكة النت الخرافية تتعالى الأصوات محذرة من قرب زوال الكتاب الورقى، ولا أحسب أن ذلك سوف يتم فى المدى القريب على الأقل.. قد يحدث للصحف ولكنه سوف يتأخر كثيرا وربما لا يحدث مطلقا بالنسبة للكتاب، لأن طريقة تعامل القراء مع الصحف تختلف، بسبب القراءة الانتقائية للصحيفة، فقد يقبل قارئ على الحوادث وثان على السياسة أو الإعلانات وثالث على الرياضة ورابع على الفنون وخامس على الأحداث الدولية
وسادس على صفحة الاقتصاد، مما قد يفضى إلى أن يكتفى القراء بإطلالات سريعة عبر النت على ما يشتهون من الأبواب الصحفية، لكن التعامل مع الكتاب حالة أخرى ومزاج مختلف، وعشق خاص وعلاقة إنسانية فيها قدر من العاطفة، فضلا عن طريقة القراءة ذاتها التى يمكن أن تتم فى السرير أو على السطح أو فى القطار أو على الشاطئ أو فى السيارة أو فى الكوخ و، اللابتوب ليس بقادر أن يقوم بالمهمة لكل القراء وفى كل الأحوال.
هل تذكر أيها الكتاب عندما طالعنى بهاؤك ولفتنى حضورك الطاغى، وأنا لازلت فى بداية العمر الأخضر طفلا لا أكاد ألمسك وأنت على الرفوف العالية وقليل من أخواتك مما ترك والدى ترقد داخل جهامة الجلد البنى المحروق وأكداس الغبار، والكتابات الذهبية الدقيقة التى لا تكاد تقرأ على الكعوب، حتى أخذتك بين أحضانى وشرعت أجوس خلال دروبك التى كنت أسمع لها صوتا شجيا يأتينى من أعماق التاريخ مضمخا بحكمة الأسلاف . وكلما كبرت اقتربت منك، وكلما اقتربت منك كبرت، وكلما نهلت اشتقت، وأسرنى ما تتمتع به من ملكات، وما سألتك يوما إلا أجبت وأفضت، وعندما أدركت أن كل شيء لديك، سلمت لك روحى وآمالى، وكنت دائما سكنى وسترى ومهربى ومعينى وراحة قلبى ومناط بهجتى وانقشاع همى ونور بصيرتي.
فيا أيها الكتاب.. يا أعظم ما اخترع الإنسان بعد المصباح، إذا كان المصباح يساعدنا على أن نرى الوجود المادى، فأنت خلقت كى تعين العقول والقلوب لتبصر وتستكشف كل ما فى الوجود من مادة وروح وخيال، وتلمس الفكر والشعور وتعبر عن الأتراح والآلام، وترصد العواصف والبراكين والأحلام.. بك نبصر النور والظل والنصر والانكسار والحقيقة والوهم.. نبصر ما فوق الأرض وما تضمه أعماق البحار وما يختفى وراء المجرات.. أنت العيون الحقيقية وغيرك مهما عظم محدود النظر، وكل من طلب العلا مر بك، ولا تستغنى عنك المخترعات الحديثة مهما تألقت.. السينما والتليفزيون والنت، وليس ثم عظيم إلا مولود على يديك وخارجا من دفتيك .
أنت الذى أعدت منذ نشأة الطباعة صياغة العالم الأرضى، ومرت العقود تلو العقود، والقرون تلهث خلف القرون، وأنت كما أنت، بل تزداد تربعا على عرش المعرفة.. أعرف أن الأنباء قد بلغتك بشأن الكومبيتر وآلياته الجهنمية وأصابعه الممتدة وأياديه الطويلة.. فلا تحمل همّا أرجوك.. فأنت صاحب المكانة والإمكانات، ولك الفضل الذى لن يناله الزاحف الجديد.. أنت ما زلت ـ برغم الدعاوى ـ الأقرب والأيسر والأرخص والأعمق والأجرأ والأنفع والأنبل، وإذا نجح غيرك فل تبتئس، فكلهم من جواريك وخدمك ومن صنع يديك ولن تنطفئ شمسك إذا بزغت نجومهم .
على أننى أ قول لك ما أقوله للزوجة المهددة بعشق زوجها لغيرها :
.. تجدد وتجمل وتجاسر وتعمق ..وأقول أيضا: ابهر واكشف.. إ بدع واجذب.. انهض وتفاءل.. فأنت السيد.. أنت السيد المبجل، ولك كل التقدير والمحبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة