ليس من شك الآن فى أن الفترة الذى اعتلى فيها الرئيس حسنى مبارك سدة الحكم كانت من أحرج الفترات التى مرت بها مصر، حيث تم تكليفه لهذا المنصب الرفيع إثر اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات عام 1981م، وسط قيادات الجيش وعلى يد طائفة آثمة تنتمى بكل الأسف للقوات المسلحة، وذلك أثناء حضوره العرض العسكرى المقام بمناسبة الاحتفال بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة.
ولاشك أننا ونحن نتناول اليوم بعضا من مشاهد عصر الرئيس مبارك فإنه لابد من أن نذكر هنا أن الرئيس مبارك قد تسلم شئون الرئاسة وهو يقف بمصر على مفترق طرق، حيث كانت الأرض مهتزة والأجواء مضطربة، والمستقبل تغطيه الحجب والغيوم بعد أن غيّر حادث الاغتيال الآثم كل شىء على وجه الأرض، وألقى بظلاله القاتمة على الحياة العاملة فى البلاد، ولكن سرعان ما تدارك الرئيس مبارك كل هذه المواقف المتباينة وتجاوز بمصر خطورة المحنة فأعاد ترتيب الأوضاع الداخلية وحرص فى لحظة فارقة أن يرتفع بمشاعر الشعب فوق الألم، وأخذ بحكمته وحصافته فى مواجهة التحديات يبث الأمل فى النفوس من جديد، ويزيد الطموح لدى أبناء الوطن فكانت أفكاره تنبعث عن أحلام الناس وتطلعاتهم للمستقبل انبعاثا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة، فانقشعت بجهوده الحثيثة ضبابية الأحداث الكثيف لتتضح أمامه رؤية المستقبل الزاهر الذى عاهد الشعب بالوصول إليه.
والمحقق أن الرئيس مبارك من الذين واكبوا عصر الرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات عن كثب ويعلم حق العلم حقيقة الإرث الثقيل المنتقل إلى سلطته عن فترة رئاستيهما بكل ما يحمله هذا الإرث من نجاحات أو إخفاقات، وعلى الرغم من ذلك قبل المسئولية برمتها فكانت نظرته الظاهرة للأمور مختلفة كل الاختلاف عن سابقيه، وكان يرى ضرورة مواصلة الإصلاحات الداخلية فى السياسة والاقتصاد وفى التعليم والصحة وفى تحسين الأوضاع الاجتماعية، وخلق مساحة للديمقراطية للنهوض بمصر إلى مكانة متقدمة بين دول العالم، بالإضافة إلى إعادة العلاقات العربية التى سبق أن انقطعت مع مصر فى فترة تولى الرئيس الراحل السادات الحكم بسبب توقيع معاهدة "كامب دافيد" مع إسرائيل، وذلك أن السياسة العالمية لا تعترف الآن إلا بالتكتلات الإقليمية والدولية من أجل أن تحسم الدول الأمور بمساندة بعضها للبعض الآخر.
بدأ الرئيس مبارك ممارسة عمله بالشأن الداخلى وكان أول قراراته أن أصدر عفوا رئاسيا عن المعتقلين بالسجون، وأمر بالإفراج عنهم وفتح صفحة بيضاء معهم وترك باب الحوار مفتوحا بينه وبينهم، ثم عمد بعد ذلك إلى التشكيل الوزارى وعين كل وزير فى تخصصه آخذا بالأسلوب العلمى والمعرفى فى إدارة شئون الدولة الحديثة، كما دأب على الاهتمام بالبنية التحتية وسعى فى تحقيق النهضة العمرانية، وأعطى مساحة للرأى ليست بالقليلة كان الرئيس مبارك يمارس عمله الرئاسى على المستويين المحلى والعالمى وكأنه يسابق الزمن، ليكمل مشواره الإصلاحى والتنموى المنسحب على إنجازات وإخفاقات الفترتين السابقتين فشرع فى استكمال مفاوضات السلام لاسترداد آخر شبر من سيناء، وقد نجح فى ذلك، وتم بالفعل رفع العلم المصرى على طابا المصرية، كما أعاد العلاقات المصرية العربية وفتح مجال الاستثمار فى مصر لرجال الأعمال العرب والأجانب لضخ ثرواتهم فى شريان الاقتصاد المصرى حتى ينهض من كبوته، والمؤكد أن الرئيس مبارك قد أعاد مصر للريادة العربية كما أعاد إليها أمانة الجامعة العربية إلى مقرها الدائم بالقاهرة.
ومع أوائل التسعينيات شهدت مصر حوادث إرهابية مؤسفة قامت بها جماعات متطرفة كانت تحصل على تمويل خارجى لضرب المصالح المصرية فى الداخل، وقد تحملت الدولة حملة التفجيرات الإجرامية الموجعة والتى كانت تهدف إلى ضرب السياحة المصرية وترويع الآمنين وزعزعة الأمن الداخلى وتقويض البنية التحتية وخنق الاقتصاد ونشر الفوضى فى أنحاء البلاد، وقد واجهت الحكومة هذا المخطط الإرهابى بإستراتيجية أمنية رائعة ولبثت فى مقاومته ردحا من الزمن إلى أن قضت عليه بعد نال من جهودها ووقتها الكثير.
بعد القضاء على الإرهاب استأنفت قاطرة الإصلاح والتنمية سيرها وظهرت بعض المشروعات العملاقة على فترات زمنية مثل قناة توشكا وترعة السلام، وبناء الجسور والكبارى والصرف الصحى وبناء الوحدات السكنية، وإنشاء مطارات وملاعب جديدة وأبنية رياضية وتعليمية، كما حرصت الدولة من جانبها على تشجيع الاستثمارات الخاصة ومنح القروض للمستثمرين.
ومع ذلك فإن المواطن يرى فى ظاهر الأمر أن آلية عمل الحكومة الحالية كسابقاتها ولم يتغير منها شىء، كما يرى أن حجم الإنجازات الفعلية التى قامت بها هذه الحكومة طوال السنوات الماضية لم يكن ليرضى طموحاته وقناعاته، وذلك أنه لم يلمس تحسنا ظاهرا فى حياته الاجتماعية، فدخله ما زال محدودا لا يستطيع أن يكفى احتياجاته اليومية من السلع الضرورية بسبب الزيادة المضطردة فى الأسعار، لاسيما ارتفاع سعر الزيت والسكر والأرز والأدوية، كما أنه لا يضمن استمراره يوما واحدا فى عمله ويرجع ذلك لعوامل الخصخصة التى قضت على شركات القطاع العام بالدولة دون أن يفهم المواطن من ذلك سببا واحدا، والعجيب أن المواطن نفسه لا يفهم أيضا الكيفية التى يتم من خلالها بيع الأراضى والوحدات السكنية القائمة على حدود الدولة لرجال أعمال مصريين وأجانب أو نواب البرلمان بأثمان زهيدة ليعودوا ويبيعونها بعد ذلك للمواطنين أنفسهم أو لعدو يهدد أمن الوطن أو للحكومة نفسها، حين تضطر إلى استرداد هذه الأراضى فتشتريها بعشرة أضعاف سعرها الأصلى، وإذا رفضت شراءها كمال هو الحال الآن شرع المستثمر فى مقاضاتها أمام محاكم دولية ليحصل على حكم يجيز له الحجز على ممتلكاتها بالخارج، أليس فى هذه التصرفات الحمقاء انتهاكا سياديا للدولة ؟ والسؤال هنا هل يستطيع كل مواطن بسيط أن يحصل على حقه من هذه الأراضى بنفس السعر والمساحة التى حصل عليها رجال الأعمال ونواب البرلمان؟، وإذا لم يتح له ذلك فكيف له أن يتحصل على هذا الحق من قبل الحكومة أسوة بالآخرين؟!
رمضان محمود عبد الوهاب يكتب: مصر بين الأمس والغد مرة أخرى
الخميس، 22 أبريل 2010 10:12 م