يقول ماركيز فى روايته (ذكريات):"كما أن هناك أحداثا واقعية يمكن نسيانها هناك أيضا أحداث لم تقع أبدا ويمكن أن تظل ذكراها كما لو أنها وقعت"
هذه العبارة تتضمن مفهوما مختلفا للفن، فإذا كانت المفاهيم السابقة للفن، من حيث قدرته على التغيير، أو التفسير أو تصوير الواقع، قد أصبحت من السرديات القديمة فإن فكرة توسيع العالم، فكرة الخلق والإضافة أصبحت هاجس الكتّاب، فمن ألعاب كاتب كبير مثل بورخيس هذه الرغبة فى، والمقدرة على، خلق وتأسيس وقائع وشخصيات لم تكن أبدا، وإعطاء تكويناته السردية الخيالية مصداقية الحقائق الموضوعية، فنرى بعض قصصه تبدأ كما لو كانت دراسة علمية خالصة وأحيانا على شكل فكرة فلسفية أو طرح جدلى، وحيله فى ذلك متعددة، فقد يبدأ النص بفقرة من عمل أدبى قديم أو من مرجع تاريخى أو علمى، أو باستدعاء ومناقشة أسطورة قديمة أو فكرة فلسفية لم تحسم بعد.
المهم هو أن يشرك القارىء معه فى ألعابه الذهنية الراقية والمحيرة، ويشده إلى طروحاته الميتافيزيقية المسببة للدوار، فهو مثلا فى قصته (الاقتراب من المعتصم) يستعرض رواية لا وجود لها وينسبها لمؤلف لا وجود له، وفى (دراسة لأعمال هربرت كوين) يتوسع فى ذلك بدراسة أعمال كاملة لكاتب وهمى!
ومن ألعاب ماريو فارجاس يوسا أن يقدم نفسه فى شخصيات مستعارة بالغة التنوع: شاعرا، ناقدا، روائيا، ثم لا يكتفى بذلك، بل يجعل الناقد يمارس عمله النقدى على كل من الشاعر والروائى. وخلق ماركيز مدينة من لا شىء مانحا إياها اسما، هو"ماكوندو"، وتاريخا أكثر حضورا من تواريخ بعض المدن الحقيقية، ثم ملأها بشخصيات وحيوات صاخبة، وهذا ما حاوله أيضا الروائى المصرى محمد البساطى فى روايته " الخالدية".
لقد وصلت ألعاب الكتاب واجتراحاتهم لمناطق جديدة من اللعب الحر إلى الدرجة التى أصبحت تهدد الحقائق المستقرة، أو تلك التى تدّعى أنها كذلك.
هكذا يتعين علينا أن نصدق دان براون الذى يقضى بعض الوقت واقفا على رأسه أثناء الكتابة عندما يقول:"البقاء فى وضع مقلوب يساعدنى على حل عقد الحبكة الدرامية عن طريق تغيير الزاوية التى أنظر بها إلى الأشياء"!