معصوم مرزوق

موت الحياء..!!

الأحد، 18 أبريل 2010 07:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"إذا لم تستح، فافعل ما شئت".. عبارة تلخص معنى ارتباط انعدام الحياء بـ "الإباحة المطلقة"، ولكنها تعنى انهيار القيم وتدهور الذوق وإنحلال الضوابط.. حالة من الضياع تلف جماعة بشرية، فقدت حياءها واستحلت لنفسها أن تفعل ما تشاء..

والحياء يمكن تعريفه بأنه التعفف عن الإتيان بالتصرفات المشينة ،وتكون التصرفات كذلك إذا كانت مدرجة تحت هذه الصفة فى قاموس السلوك لجماعة بشرية ما، فكما يقول الفقها:"الأصل فى الأمور الإباحة"، أى أن الإنسان لديه ميل وشهوة دافقة للاغتراف من كل شيئ، دون ضابط أو رابط، ولا يحده فى ذلك سوى نص أو عرف، فأغلب الناس تفضل لو أن الشوارع لا تحدها إشارات للمرور، أو إذا كانت تلك الإشارة خضراء طوال الوقت، ولكنهم يضطرون للتوقف أمام الإشارة الحمراء، خوفاً من جندى المرور، أو بالأحرى نص قانون المرور، فهم يقبلون بقيد على حريتهم يتمثل فى نص مكتوب يعتبر بمثابة عقد اجتماعى يلتزم به الجميع طواعية أو قهراً..

فإذا قام شخص بكسر إشارة المرور الحمراء، وإذا تم ذلك دون مخافة من العقاب أو إستهانة بهذا العقاب، فإن النص الذى يحدد المخالفة يصبح نصاً ميتاً، بل والأخطر من ذلك إنه يلقى بالشك على أى نص آخر، وهكذا يصبح العقد الاجتماعى مجرد ورقة لا قيمة لها، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا المجتمع يصبح بلا رابط أو ضابط، يستحل فيه كل فرد أن يفعل ما شاء متى شاء، أى يصبح بلا حياء طبقاً للحكمة العربية القديمة، ولكن هل يصح هذا الوصف حقاً لنوع من السلوك أصبح فى حد ذاته عرفاً متبعاً؟؟ ..

إذا شاعت الرشوة وأصبحت سلوكاً يومياً يتبع بلا خجل أو اعتذار أو خوف، وإذا انتشرت الألفاظ البذيئة وصارت نوعاً من التفكه والمعاصرة، وإذا أصبحت المحسوبية والواسطة هى الطريق المأمون المضمون لنيل الحظوة والمكانة، وإذا صار النفاق وسيلة المشتاق للصعود إلى المناصب.. إذا أصبحت تلك السلوكيات مقبولة لا يرى فيها الناس غضاضة، هل يمكن لأحد أن يدعى أنها "قلة حياء" ؟!.. ألا تصبح تلك السلوكيات "المرفوضة" جزءاً من العرف السائد المرعى، أو قواعد العقد الاجتماعى السارية؟!..

إذا صح الاستنتاج السابق، وكان الذى لا يستحيى هو ذلك الشخص الذى يسلك سلوكاً مغايراً للسلوك المعتمد القائم، فإن الشخص الذى يحترم إشارة المرور يعد فى هذا الإطار بلا حياء، وكذلك الذى يرفض تقديم الرشوة أو أخذها، ويصبح الرجل الذى ينصح أولاده بالصدق فى التعامل والشرف رجلاً قليل الحياء والأدب!! ..

من الإنصاف أن نخفف العبء على ضمائر الناس المعذبة، أولئك الذين يقطعون نصف الطريق ما بين" الحياء" و" عدم الحياء"، فهم منافقون ولكنهم ينتقدون النفاق، وهم يسرقون ويهاجمون اللصوص، وهم يلجأون إلى كل وسائل الواسطة والمحسوبية والرشوة، بينما يجأرون بالشكوى من تفشى هذه الوسائل.. ومن العدل أن نعيد التوازن إلى هذه النفوس المعذبة، بأن نوضح لهم أن سلوكهم الذى يتوارون منه هو السلوك الاجتماعى السائد، أى أنه سلوك محمود، وهم ليسوا فى حاجة للانفصام ما بين فعلهم وقولهم، ففى زمن مثل هذا لا ينبغى لفاسد أن يخجل من فساده وإفساده، بل عليه أن يظهره إظهاراً ويتباهى به أيما تباهى، لأنه، "إن لم يكن ذئبا، لأكلته الذئاب"!!

ولعل مثل شعبى آخر يؤكد الاستنتاج السابق، إذ يقول: "اللى استحوا ماتوا" ، ويقال أن أساسه التاريخى يرجع إلى حريق شب فى حمام من الحمامات الشعبية فى اليوم المخصص لاستحمام النساء، فأما النساء اللائى خرجن مسرعات عاريات خوفاً من الحريق فقد نجوا، وأما اللائى كان لديهن حياء فقد ماتوا إحتراقاً، ولعل ما يمكن استنتاجه من هذا المثل الفصيح هو أنه فى لحظات الخطر والخوف والغموض، يكون الحياء معادلاً للموت، فليس هناك مساحة متاحة لأى حياء فى زمن بلا حياء..

وقد يفسر ذلك كثيراً من المظاهر فى السياسة الدولية الحالية، فالسلوك الدولى أشبه ما يكون بخروج سافر ليس فقط على القواعد القانونية التى تعارف عليها المجتمع الدولى، بل حتى على قواعد الأخلاق التى تعارفت البشرية على حدودها الدنيا، فأصبحت قاعدة"سيادة الدول" مثلاً فى مهب الريح، وفقد مبدأعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول معناه، بل أصبحت القاعدة هى العكس تماماً، والمعيار هو القوة المجردة، فمن يمتلك القوة يمتلك معها حق التصرف المطلق فى حقوق الآخرين، وليس مدهشاً أن هناك تسليماً بهذا الوضع الجديد، ولعل ذلك يؤكد مرة أخرى صدق استخلصاتنا السابقة..

خيانة الوطن صار لها اسم آخر مثل" مساعدة الأجنبى على تخليص الوطن من الاستبداد"، بل وأصبحت الجاسوسية ترتدى ملابسا أنيقة وتمتهن مهناً مرموقة، فالأستاذ الجامعى الذى يقدم خلاصة أبحاثه مقابل ثمن معلوم ليستفيد بها خصوم الوطن، هو باحث مجتهد، والصحفى الذى يبيع قلمه بأعلى سعر، هو قبلة كل الباحثين عن الكلمة الأمينة، وهكذا تتسلل مصطلحات زمن بلا حياء كى تزيح من أمامها كل رواسب الزمن الذى تعفن فيه الحياء..

عليك فقط أن تقود سيارتك فى أى شارع، لتكتشف بنفسك المستوى الذى انحدر إليه المجتمع، ستلتقط أذناك من الشتائم ما لايمكن لك أن تحصيها، وسترى الشباب الواعد وهو يتسابق برعونة غير عابئ بأرواح البشر، وتلال القمامة التى تزين كل ركن وفوقها أسراب هائلة من الذباب، سترى سيدة متأنقة يبدو عليها الثراء وتفوح منها نعمة الثقافة، لكنها لا تجد غضاضة فى أن تلقى بمنديلها الورقى من نافذة سيارتها إلى الشارع، حالة متفاقمة من انعدام الحياء، الحياء الذى كنا نعرفه لأنه لم يعد موجوداً..

وربما يظن البعض أن" الفن" لا يمكنه أن يسقط فى هذه الهاوية، فهو تعبير عن أفضل ما فى الإنسان، ولكن نظرة واحدة للأغانى التى تقفز فى كل المحطات الفضائية سوف تؤكد أنه على رأس القائمة، فقد يمكن للفن أن يحافظ على المخزون القيمى لأمة من الأمم، ولكنه فى نفس الوقت قد يسهم إسهاماً خطيراً فى تجريف هذا المخزون بما يقدمه من ذوق منحط يدغدغ غرائز الإنسان، ويحضه على الغباء والسطحية، والمسألة لا تقتصر على الأغانى فقط، وإنما الفن بمفهومه الشامل..

وقد يظن البعض الآخر أن تلك نظرة سوداوية متشائمة، وأن المسائل لا تقاس بهذه المسطرة المطلقة التى تضع معياراً يستند إلى بعض المظاهر التى لا تنفى وجود عكسها، بل إن ظهورها حتمى لأنها تناقض الوضع المستقر العام، تماماً مثلما تظهر البقعة السوداء فى الثوب الأبيض..

وقد يرى البعض الآخر أن ما ذهبنا إليه من استخلاصات هو نتاج "النظرية المثالية" الحالمة التى كم ضعيت مجتمعاتنا العربية، ولا بد من التسليم بأن خلاصنا معلق بالواقعية، وهو ما يعنى مزيداً من الخشونة المقترنة بقلة الأدب، ذلك هو الأسلوب الذى اتبعه الغرب فى بناء حضارته العظيمة، فحين أباح لنفسه استعباد شعوب أخرى ونهب ثرواتها، لم يتوقف كى يفكر فى مقدار الحياء فى أفعاله، وإنما فكر بشكل واقعى وعملى فيما يمكن أن ينجزه من أرباح مادية، إن المغفلين وعاطلى المواهب فقط هم الذين يتوارون خلف أستار الحياء، لأنهم لا يملكون الجرأة الكافية..

وقد لا أختلف مع كل هذه الآراء، خاصة وأنها بالفعل سائدة، ولكنى لا أحترمها بالضرورة، وأظن أن أصحابها لا يعبأون بذلك، لقد خرجوا من الحمام بالفعل عراة مفضوحين وليس لديهم ما يخفونه، إنهم يتبجحون باحتقارهم لكل مسلمات وقواعد السلوك المحترم، يخرجون ألسنتهم لمن لا يزال متمسكاً بقاموس السلوك القديم، وذلك تفسيرهم الوحيد لما يطلق عليه مصطلح" العولمة"، حتى ليبدو أن هذا المصطلح فى طبعته العربية مشتق من لفظة العوالم( أو راقصات شارع محمد على )، فلقد مات الحياء منذ زمن طويل، ولم يعد سوى استكمال مراسم الدفن..

* عضو اتحاد الكتاب المصرى





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة