عندما كتب الأستاذ إبراهيم عيسى مقاله الخطير عن شكه ـ الذى أؤيده فيه ـ فى وجود من سُمى عبد الله بن سبأ، أشفقت عليه مما قد يحدث له أو مما قد يقال عنه، إذ أنه قد أدخل قلمه إلى أعشاش الدبابير وخلايا النحل الآدمى، فكثيرون ممن قرأوا الكتب التى روت أحداث تلك الفترة العصيبة من التاريخ الإسلامى يصدقون معظم ما جاء فيها من أخبار، ويغضون النظر عن إعمال العقل انتصارا للنقل، حتى ولو كانت تلك الأخبار المنقولة غير معقولة على الإطلاق، ومنها بالطبع أخبار ذلك الرجل الخارق المسمى عبد الله بن سبأ! وما فعله لكى يوقع الفتنة بين صفوف المسلمين، وكثيرون آخرون يعتبرون - حين يقرأون نفس الأخبار من نفس المصادر - ابن سبأ شخصية مختلقة، تماما كشخصية على بابا أو السندباد فى حكايات ألف ليلة وليلة.
وكيف لا نشك فى أصل هذه الشخصية المختلقة ونحن قد أمرنا فى القرآن الكريم بإعمال العقل والتدبر والتفكر فى كل ما خلق الله عز وجل؟
إن ما ورد فى كتب التاريخ عن هذا (السبأ) ليس حديثا نسب قوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه رواية تاريخية، كتبها أو تناقلها أو رواها من قد يكون فى نفسه مرض أو حقد أو حسد على الإسلام وأهله، وما أكثر هؤلاء وما أكثر ما تناقلوه من أخبار، أقل ما يقال عنها إنها مدسوسة لا معقولة.
ورد فى صحيح البخارى: (حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضى الله عنها قالت: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير)، وورد مثله تماما فى سنن الترمذى وابن ماجة، وأورد النسائى نفس الحديث وضَعّفه!
الرسول صلى الله عليه وسلم القائد المقاتل المنتصر؛ ولم يمض على انتصاره الساحق على اليهود فى خيبر بضعُ سنين؛ يرهن درعه وأداة حربه عند يهودى لقاء بضعة أكياس من الشعير، وعند من؟ عند يهودى! الرسول الذى فتح الله عليه الجزيرة العربية لتكون نواة دولة الإسلام العظمى، يرهن درعه الحديدية عند من قال عنهم القرآن إنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا! ومن العجيب أن آلاف الصحابة من المحيطين به والمؤمنين به، الذين كانوا يبدأون حديثهم معه صلى الله عليه وسلم قائلين: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، أو جُعِلت فداك يا رسول الله، وقفوا موقف المتفرج وكأنهم يستخلصون القدوة منه ليفعلوا مثله، فيرهنوا دروعهم وسيوفهم عند أعدائهم! ومن هؤلاء الصحابة من كان مليونيرا بمنطق العصر، كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان الذى سلح من ماله الخاص ثلث جيش العسرة فى غزوة تبوك، وكان قوام الجيش ثلاثين ألف مقاتل مسلم، وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم؛ برغم غناهم الواسع وإنعام الله عليهم بالمال الوفير وقوافل التجارة التى تجوب الآفاق؛ وقفوا أيضا يتفرجون على نبيهم وقائدهم وهو يتضور وأهله جوعا، حتى يذهب إلى دار اليهودى حاملا درعه؛ رمز قوة الدولة الناشئة المنتصرة، ليرهنه عند من كانوا – ومازالوا - أعدى أعداء الدين لقاء ما يسد به رمقه وأهل بيته!
نحن قطعا لا نجرؤ أن نبحث ما وراء تصرفات النبى صلى الله عليه وسلم، ولكننا لا نصدق أن الرسول قد استدان من يهودى بـِرَهْن درعه لقاء طعامه، فى تلك الظروف التى كان يشكل فيها اليهود أعدى أعداء الدولة الوليدة، ويمكرون بها وبرموزها، ويتحينون الفرص لإيقاع الأذى بها وبأهل دعوتها، كيف نصدق هذا القول عن نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ كيف يَدَع الله عز وجل عبده ونبيه الذى عصمه من الناس لتعتصره الحاجة إلى حد أن يرهن درعه عند يهودى أو غير يهودى؟
يقول القرآن: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء)- المائدة 64، هل يقترض الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ممن قالوا إن يد الله مغلولة؟ ألم يقرأ رواة هذا الحديث هذه الآية؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) - صحيح البخارى، ولم يجد – بمنطق رواة الخبر- من يقرضه الشعير من المؤمنين!
ومن الغريب أن من نسب هذه الحكاية الغريبة لنبى الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ لم يفته أن ينسب نفس الفعل إلى على بن أبى طالب كرم الله وجهه، يقول ابن الأثير عن على حين مرض ابناه الحسن والحسين: (... وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق على إلى شمعون الخيبرى، فاستقرض منه ثلاثة أصواع من شعير، فجاء بها فوضعها أمام فاطمة...)، لماذا لم يتوجه على إلى أحد أغنياء الصحابة ليقترض منه؟ أم أنهم اتخذوا نفس الموقف مع أول من أسلم من الفتيان؛ ابن عم الرسول وزوج ابنته، فيجد الرجل نفسه مضطرا للاستدانة من اليهودى، ويعلم الله ماذا ترك له رهنا للشعير، ربما رهن عنده سيفه ذا الفقار! ألم يسمع المسلمون آنذاك قول النبى صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن .. والله لا يؤمن .. والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله ؟ قال: من بات شبعان وجاره إلى جواره جائع)، أو ليس المؤمنون أولى ببعض؟
وعود على بدء؛ كل ما ورد فى الكتب يؤخذ منه ويرد، إلا القرآن الكريم الذى تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه، أما ما عداه فقد كتبه بشر، قد يخطئون وقد يصيبون، وحسابهم عند خالقهم حين يفضون إليه بما عملوا وكتبوا وقالوا، صدقوا أو كذبوا، المهم هو ماذا نحن فاعلون حين نعرض لمثل هذه الأخبار؟
إننا نتوجه بكل الصدق والرجاء إلى علماء الدين الأجلاء، أن يبدأوا حركة كبرى لإعادة كتابة التاريخ الإسلامى، لتنقيته مما جاء فى حكاياته من خرافات وإضافات ودسائس تنسب النقائص إلى النبى الكامل صلى الله عليه وسلم ولصحابته الأخيار وأهل بيته الكرام، وتقويم الأحاديث التى رويت عن النبى صلى الله عليه وسلم، لبيان الضعيف منها والمدسوس فنتوقف عنه ونرده... والله من وراء القصد.
مجد خلف تكتب.. اللامعقول
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة