قد يكون من الغريب حقا أن أتذكر معكم اليوم بعضا من مشاهد الأمس التى سجلت لنا مسار التحولات السياسية والعسكرية لأربع فترات رئاسية شهدتها مصر على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية فى غضون الثمانية والخمسين عاما الماضية والتى بدأت مع أحداث ثورة 23 يوليو 1952 و لا تزال مستمرة حتى يتحقق للشعب فى الغد القريب جزءا من طموحاته التى عجز عن تحقيقها فى ظل الفترات السابقة، وإن كنت أرانى محقا فى ضرورة التعريج على هذه المرحلة الخالدة من تاريخ مصر حتى تستطيع الأجيال المتعاقبة أن تفهم ما أضافته هذه المتغيرات من ملامح جديدة للدولة المعاصرة.
والحق أن التحول السياسى قد بدأ مع إلغاء النظام الملكى وإعلان النظام الجمهورى بتولى اللواء محمد نجيب شئون الرئاسة كأول رئيس لمصر، وقد ساهمت فترة ولايته الوجيزة التى لا تربو على العام فى إرساء المبادئ والنظم التى تمخضت عنها أهداف ثورة يوليو.
وقد بدأت الفترة الثانية باعتلاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سدة الحكم لتبدأ معه ومضات الإنجازات الرائدة فى مجالات التعليم والصناعة والزراعة والصحة العامة، ففرض مجانية التعليم وأصبح متاحا للغنى والفقير وتعد فترة رئاسته من أزهى عصور التعليم فى مصر، كما عمل على إنشاء مصانع الحديد والصلب فى حلون ومصنع الإنتاج الحربى بالإضافة إلى مصانع الغزل والنسيج.
وفى مجال الزراعة قضى على الإقطاع وأعاد توزيع الأراضى على الفلاحين.
ولم يقف طموح الرئيس عبد الناصر عند هذا الحد بل ذهب أبعد من ذلك حين أعلن عن تأميمه لقناة السويس، فأثار بهذا القرار الجرىء حفيظة الدول الأوروبية على مصر وكانت نتيجته العدوان الثلاثى على مصر عام 1956والتى اختبرت فيه عزيمة المصريين الصادقة فى الصمود أمام العدوان، ثم تلته نكسة 1967 الأليمة والتى تمثل للمواطن لحظة انكسار ثم حرب الاستنزاف التى مثلت قوة الردع للعدو فكانت مقدمة رائعة لنصر أكتوبر العظيم . ورغم الخسائر الجمّة التى لحقت بالجنود والعتاد ورغم الدمار الذى لحق بمدن القناة وتشريد أهلها ورغم انعدام مساحة التعبير عن الرأى بأى حال من الأحوال ورغم قسوة وجبروت زوار الفجر وسطوتهم على الشعب والزج بأبنائه فى المعتقلات، فإن حب الرئيس عبد الناصر كان مستقرا فى أعماق القلوب حيث كان يلتف من حوله أبناء الشعب الصادقين المخلصين فتجد منهم الكاتب والشاعر والفنان والمطرب والعامل والفلاح قد جمعهم هدف واحد عبر منظومة شعبية وملحمة وطنية واحدة.
فجادت القرائح بأعظم الكلمات وتغنت بها أعذب الأصوات الجميلة وجسدت عظمتها السينما المصرية فى أفلامها فتجاوز القائد بهذا التضافر مع الشعب محنة الانكسار، وسعوا جميعا فى إعداد جيش قوى على نحو يحقق لهم الانتصار..
كل هذه الشواغل الداخلية لم تسن الرئيس عبد الناصر عن الاهتمام بالشأن العربى والعمل على استقلال بلدانه والذود عنها فحدت به عروبته أن يخوض بالجيش المصرى حروبا متلاحقة من أجل القضايا العربية كان أهمها القضية الفلسطينية مما تسبب فى إنهاك الاقتصاد المصرى وتوقف عجلة التنمية، ومع ذلك لم يتأثر دخل المواطن كثيرا فى هذه الفترة، وهذا سر تعلق الشعب بعبد الناصر.وفى عام1971 رحل الرئيس عبد الناصر وكانت مشاهد الحزن الشعب والعربى أصدق تعبيرا عن حب الشعب لزعيمه.
وتبدأ المرحلة الثالثة بتولى الرئيس الراحل أنور السادات لمقاليد الحكم فى ظروف عصيبة استطاع بدهائه أن يضمد جراح الشعب المسخنة بالألم ويخفف من وطأة حزنه على عبد الناصر وأن يزيح الناصريون عن طريقه، وصمد أمام مظاهرات الطلبة مليا وانصرف إلى الاجتهاد فى سعيه لبناء قدرات الجيش العسكرية، وذلك بعد أن تخلص من مناوئيه فى السلطة والجيش جميعا و بعد أن استكمل العدة والعتاد أعطى إشارة البدء فى انطلاق حرب السادس من أكتوبر المجيد 1973 فكانت الضربة الجوية الأولى التى دكت حصون العدو الإسرائيلى مع لحظة عبور القوات المصرية قناة السويس وتحطيمها لخط بارليف الذى لا يقهر واستردادها معظم أراضى سيناء التى احتلها العدو الصهيونى عام1967.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها دعا الرئيس السادات إلى الانفتاح الاقتصادى وإلى التعددية الحزبية لخلق مناخ سياسى معتدل، ومضت فترة على توقف الحرب لم يلبث أن دعا فيها إسرائيل إلى معاهد سلام مع مصر، فلمّا أجابت تل أبيب دعوته ذهب إلى القدس فى موكب كانت تحيطه هيبة الانتصار من جهة واحترام وتقدير العالم من جهة أخرى. كان هذا اليوم مشهودا حقا فقد شهد لقاء استثنائيا انبثقت عنه معاهدة " كامب ديفيد " بين كل من مصر وإسرائيل ومنذ ذلك اليوم دق ناقوس الخلافات بل قل إن شئت ناقوس الخطر بين أغلب القادة العرب والرئيس السادات ونشب على غرار ذلك القطيعة العربية، كما تعالت أصوات فى الداخل تعارض معاهدة السلام أيضا مع إسرائيل فاختلطت بذلك أصوات الداخل مع الخارج.
وتمخض عنها فى الداخل ما يسمى بالجماعات الإسلامية، والتى كانت تشكل تهديدا مباشرا لأمن مصر الداخلى فى هذه الفترة حيث كانت الظروف مهيأة لذلك نظرا لارتفاع الأسعار وقلة الدخل، وبداية تنامى الحراك السياسى على الساحة الداخلية فى ظل مساحة محدودة للرأى أفردها النظام ولكن حين تعاظم الخطر ألغى هذه المساحة وأعاد أسلوب القمع للسيطرة على الأحداث ففتح باب السجون وزج بداخلها العديد من أصحاب الفكر والرأى ورجال الدين ممّا ألب الرأى العام ضد الرئيس السادات وحين لم يعد فى قوس الصبر منزع كان المخطط الآثم الذى أنهى حياته.
جملة القول إنك حين تنظر إلى الفترتين نظرة ثاقبة فإنك تجد أن الزعيمين قد اتخذا قرارات حاسمة ومؤثرة، ومن هذه القرارات تأميم قناة السويس.
ومهما يكن من شىء فإن الزعيمين اجتهدا قدر استطاعتهما فى تقديم ما رأياه صالحا للوطن والمواطنين، لكن حال الشعب ظل متداعيا ومتهالكا ينتظر قاطرة الإصلاح السياسى والاقتصادى التى تكفل له حياة الرفاهية.
رمضان محمود عبد الوهاب يكتب.. مصر بين الأمس والغد
الجمعة، 16 أبريل 2010 09:06 م