رإن بحثت عن مفكر أو كاتب مصرى لتطلق عليه لقب شهيد الفكر فى العصر الحديث، فلن تجد شخصًا أقرب إلى هذا اللقب من ثلاثة: أولهم شهدى عطية الذى استشهد فى المعتقل والمنسوب للحركة الشيوعية، وثانيهم هو فرج فودة المحسوب على الليبراليين والذى اغتالته يد الإرهاب دون رحمة أوائل التسعينيات، وثالثهم هو سيد قطب، الذى ساقه الحكم الناصرى إلى المشنقة.
لكن حال قطب يختلف كثيرًا عن كل من «عطية» و«فودة»، فلا يختلف أحد على كونهما شهيدين حقيقيين للفكر الذى دفعهما إلى الموت، أما «قطب» فيأتى دوما فى ذيل هذه القائمة باعتباره أبا روحيا لجماعات العنف المسلح فى مصر وفى هذا ظلم كبير للرجل الأديب والشاعر والناقد والثائر دوما والمناضل بالقلم ضد الظلم والظالمين، صاحب «فى ظلال القرآن»، الذى تتكامل فى قصة حياته معانى المأساوية والدرامية، بما يدعو إلى إعادة تقييمه، ومن ثم إعادة الاعتبار إلى شخصية ظلمها التاريخ أكثر مما ظلمت نفسها.
برغم كل الاعتراضات والاتهامات التى ينالها هذا الاسم فإن فى شخصية هذا الرجل ما يدعو للاحترام أولا، والتعاطف ثانيا. والاحترام منبعه صدقه الشديد وحماسته التى لا تفتر، وصموده أمام التعذيب والتنكيل والإهانة، أما التعاطف فمرجعه إلى شخصيته الحادة المتألمة دوما، منذ ميلاده، وتدرجه فى التعليم، وصدماته النفسية والعاطفية، وتقلباته الحادة ما بين الأدب والحب والسياسة.
بالطبع لسنا هنا لندافع عن أحد ضد أحد، ولكننا الآن خارج الظرف الزمنى الذى ساهم فى تكوين شخصية ومأساوية «سيد قطب»، بما يسمح برؤية الأحداث والوقائع بهدوء، بعيدًا عن جو العراك والتراشق، فإذا نظرنا إلى أول الاتهامات التى يلصقها الناس بقطب فسنجد أنها دعوته إلى إزالة رءوس الحكم مثل عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، لكن فى كتاب قطب الأخير «لماذا أعدمونى؟» الذى كتبه داخل المعتقل بناء على طلب المحققين، ما يرد على هذا الاتهام قيقول «قطب»: «إن العنف الذى عومل به الإخوان سنة 1954 بناء على حادث مدبر لهم وليس مدبرًا منهم وهو حادث المنشية- والذى عوملوا به وحدهم دون سائر الأفراد أو الطوائف الذين اتهموا بمؤامرات لقلب نظام الحكم أو للتجسس أو لغير ذلك. العنف الذى يتضمن التعذيب والقتل والتشريد وتخريب البيوت.. هذا العنف هو الذى أنشأ فكرة الرد على الاعتداء إذا تكرر بالقوة.. ولو كنا نعلم أن الاعتقال مجرد اعتقال ينتهى بمحاكمة عادلة وعقوبات قانونية حتى على أساس القوانين الوضعية المعمول بها- لما فكر أحد فى رد «الاعتداء بالقوة». وأنا أعرف أنه ليست هناك قيمة عملية الآن لتقرير هذه الحقيقة، ولكنها حقيقة يجب أن أسجلها فى كلماتى الأخيرة».
انتهى كلام قطب.. الذى اعترف صراحة بكل التفاصيل التى قادته إلى حبل المشنقة، وهو يعرف أن مصيره المحتوم هو الموت، ويفتخر بهذا الموت قائلا: آن الأوان ليضحى رجل برأسه فى مقابل إصلاح الدنيا والدين.. أعتقد أنه لن يقدر أحد على التشكيك فى مصداقية قطب، وهو الذى كان يكفيه كذبة واحدة للفرار من الموت، ومن هنا يأتى التساؤل الثانى، وهو: ما مقدار وجاهة كلام قطب؟ وما الذى كان يريده من هذا التسجيل فى كلماته التى يعرف أنها ستكون الأخيرة؟ فى الحقيقة أرى أن طرح قطب للقضية بهذه الصورة يدين ثورة يوليو أكثر مما يدينه هو، فالرجل يعتقد أن حادث المنشية -الذى كان محاولة لاغتيال رأس الدولة- يعتبره حادثا ملفقا، ومع هذا يقول إنه لم يكن ليعترض لو تمت محاكمة المتهمين محاكمة عادلة لا تحمل شبهة الانتقام وإذا كنا اليوم نقلب الدنيا ولا نهدأ حينما يتم اعتقال ناشر شاب 24 ساعة حتى يتم الإفراج عنه، فما بالنا باعتقال مفكر كبير وقتها لمدة عشر سنوات يذوق فيها مر العذاب والمرض والتنكيل، بلا تهمة ولا ذنب؟ وكيف لمفكر كان وقتها يملأ الدنيا ويشغل الناس أن يؤمن بشرعية نظام يلجأ إلى العنف فى التنكيل بمعارضيه؟ وكيف له أيضا أن يتغاضى عن عدم الاحتكام إلى أى من قوانين العالم فى سجنه وتعذيبه وهو الذى دفع من عمره عشر سنوات داخل المعتقل دون أن يكفر بالحكم والحاكمين؟.
لا أدعى ولا أكذب حينما أقول إن سيد قطب فى كلماته الأخيرة هذه كان يعترف بالدولة المدنية، ويرى فيها ملجأ وملاذا، ففى قوله «لو كنا نعلم أن الاعتقال مجرد اعتقال ينتهى بمحاكمة عادلة وعقوبات قانونية حتى على أساس القوانين الوضعية المعمول بها- لما فكر أحد فى رد الاعتداء بالقوة» أقوى دليل على إيمانه بالحياة المدنية، إذن فمنظر جماعة الإخوان المسلمين والراجل المسؤل عن جماعات العنف الاسلامى يدعون يعترف بقبوله القوانين الوضعية، ويقر بأنه لم يكن ليعترض على أحكام القانون لو هناك قانون فى الأساس، إذن حاكموا ثورة يوليو أولا قبل أن تحاكموا سيد قطب، ليس لتبرئته ولا لوقف سيل التهم الملتصقة به، لكن ليعرف كل واحد على الأقل أن الاثنين أخطآ ويستحقان العقاب، لأن الذى دفع ثمن هذه الأخطاء التاريخية، المجتمع كله وليس جماعة أو فردا أو حتى نظام حكم.
هذه القضية التى شكلت منعطفًا كبيرًا فى حياة سيد قطب هى التى جعلته يرى الدنيا بمنظار أسود، وهذا ما يسجله نجيب محفوظ الذى يدين لقطب بالفضل فى الإعلان عن موهبته الأدبية العالمية، فقطب هو أول من اكتشف نجيب محفوظ، وكتب عن روايته مبشرًا به، وبموهبته الفذة، ما جعل قيصر الرواية العربية يدين له بالفضل طوال حياته، وحينما ذهب نجيب محفوظ للاطمئنان على الأستاذ الكبير فى منزله وجده متجهما سوداويا وعبوسا، وبعد هذه التجربة القاسية بدأ «قطب» فى كتاباته المتشددة والتى يعرفها علماء النقد بـ«بدب المعتقل» الذى يرى الدنيا بمنظار سجين ويعتبرها كيانا معاديا لا مكانا يحيا فيه، ويخرج منها ناقما على الحياة وما فيها، محنة القهر والظلم الاجتماعى السافر هى الدافع وارء كتابات قطب التى يعتبرها البعض عدائية، وهى نفسها التى جعلت كبار الأدباء والمفكرين ينتجون أعمالا تهاجم المجتمع بضراوة، وهى التى جعلت المسرحى الألمانى الشهير «جورج بوشنر» يقول فى مسرحية «فويتسك»: «هذا العالم لا يستحق إلا أن نبول عليه»، ونفس المحنة تقريبا هى التى أنتجت أعمالا عبقرية لمبدعين كبار مثل ألبير كامو، وصموئيل بكيت، ويوجين يونسكو، وغيرهم الكثير ممن رأوا القهر فى مجتمعهم، فسعوا إلى السخرية والانتقام من هذا المجتمع القمىء، وهذا السبب نفسه هو الذى أنتج مسرح العبث والمدارس الفنية الغريبة والشاذة التى وصلت إلى حد عمل لوحات فنية بروث البهائم، تعبيرا عن قبح العالم وظلم البشر، وهذا أيضًا هو الذى دفع جيمس مكتيجى إلى أن يخرج فيلم «فى فور فينديت» الذى ينادى من خلاله بتدمير مجلس العموم «الشعب» نظرًا لما استفحل فيه من فساد، وليس بغريب أن يتشابه مصير «سيد قطب» مع مصير الشاعر الإسبانى الكبير فيدريكو جارسيا لوركا الذى أعدم رميا بالرصاص بتهمة أنه «مثقف.. صنع بكتبه ما لم تصنعه المسدسات».
نعم سيد قطب متطرف، لكن هذا التطرف لا يتجاوز تطرف الشعراء والأطفال، فى شبابه انتابته حالة من الشك والارتياب فى الحقائق الدينية إلى أقصى حد، وأقصى حد هذا قد يصل إلى ما قبل الإلحاد بقليل، واستمرت معه تلك الحالة ما يقرب من خمسة عشر عامًا نشر فيها ديوان شعر بعنوان «الشاطئ المجهول»، ثم اشتغل بالنقد متقلبا بين المدارس الواقعية والرومانتيكية والكلاسيكية، وفى هذه الفترة انتقد الكاتب والشاعر عبدالرحمن الرافعى متضامنا مع العقاد، ثم تنازع مع طه حسين، ثم صالحه، ثم دخل فى معركة مع الشيخ على الطنطاوى انتهت بمؤازرته، وفى الحياة السياسية انضم لحزب الوفد، وأيد معاهدة 1936، ثم هجر الحزب وانتقد المعاهدة، معتبرًا أن الأيادى التى وقعتها «ملوثة» ثم انضم إلى حزب «السعديين»، ثم مال إلى الاشتراكية والإصلاح الاجتماعى، وطالب بحرية العمال فى إنشاء النقابات وتأمين حياتهم، ثم هلل لثورة يوليو وكان يعتبر نفسه أحد آبائها الروحيين وتقرب إليها بالقول والفعل، ثم هاجم الاشتراكية، معتبرًا إياها معادية للإسلام، وبعد رحلته إلى أمريكا اعتبرها العدو الأول للمجتمع العالمى بما فيها من انحلال أخلاقى وسياسى.
إذا نظرنا إلى هذه التقلبات العنيفة والحادة والمتطرفة هكذا بمعزل عن سياقها التاريخى لظننا أنه مخبول، لكن فى الحقيقة ما قد يؤخذ ضده قد يكون أكثر الأشياء التى فى صالحه، فهذا التقلب الحاد دليل على الصدق مع النفس والقدرة على محاسبتها والاختلاف معها، بمعنى أنه لا يصنع من نفسه صنما يتعبده طوال حياته، بل يتعامل مع نفسه كأنه نهر يتجدد دوما بما يتحصل عليه من روافد، لكن يأتى هنا السؤال: متى توقف هذا النهر عن التجديد؟ والإجابة أنه ظل راكدًا حينما اصطدم بعنف السلطة وتجبرها، وإذا فرضنا أن سيد قطب فعلا كان يدعو لتكفير المجتمع ونفى الآخر، فعلينا أن نرى خطاباته من أمريكا إلى صديقه المسيحى الناقد وديع فلسطين، وهو يكاد يتسول منه التواصل معه، التى يقول فى أحدها: «أخى الأستاذ وديع، تحياتى إليك، أرغب إليك فى أن تكتب إلى وأن تكون على اتصال بى ما استطعت، فأنا هنا فى وحشة نفسية وفكرية.. هذا هو سيد قطب الذى يقولون إنه ينفى الآخر ويكفر المسلمين وغير المسلمين.