انتظرت طويلا ودون جدوى، لعلى أقرأ أو أسمع أى رد فعل من أى من الصحفيين أو الإعلاميين على تصريحات أدلى بها الدكتور / على الدين هلال أمين الإعلام بالحزب الوطنى لجريدة الشروق مؤخرا وأعلن فيها عن نية الحزب أنشاء مكتب للدعاية والترويج لأعماله من صحفيين وإعلاميين غير منتمين للحزب، رغم أن هذا الإعلان وما تضمنه من مواصفات وخطط عمل يمثل أهانه مؤكده لكل الصحفيين والإعلاميين المستقلين، أو الذين يدعون الاستقلال، والذين افرزتهم سنوات الزخم السياسى الخمس الماضية، إلا أن احد لم يرد أو حتى يناقش.
فأستاذ السياسة وأمين الإعلام بالحزب الحاكم، مازال على ما يبدو مصرا على أن النقد اللاذع والمعارضة المتزايدة من قبل المصريين تجاه سياسات حزبه، ليست بسبب تلك السياسات، وإنما بسبب عدم وجود دعاية كافيه لما يعتبره إنجازات للحزب، لذا جاء إعلانه عن نيته فى إحداث تغييرا هيكليا فى البنية الإعلامية للحزب، التى تعتمد حتى الآن وفقا لتصريحاته ( على أعداد كبيرة من المتطوعين الشباب الذين لا يتقاضون أجرا )، حيث يعتقد هلال أن الوطنى سيحتاج فى الفترة القادمة إلى إدخال عنصر الاحتراف داخل ماكينته الإعلامية – على حد قوله - من الإعلاميين المحترفين غير المنتمين للحزب ولكنهم سيتقاضون أجرأ مقابل عملهم الإعلامى الدعائى لصالحه، وإمعانا فى خداع الناس فأن مقر هذا المكتب الإعلامى الجديد كما يقول د/ هلال، سيكون خارج مقار الحزب الوطنى، ولا نعرف السبب، سوى أن يكون الهدف هو عدم لفظه كسابقه، وحتى لا ينصرف الناس عن الإعلاميين الذين يتم شرائهم من قبل الحزب ويفقدون مصداقيتهم، وبالتالى يفشلوا فى أداء الدور المنوط بهم القيام به .
تصريحات أمين الإعلام بالحزب الوطنى لم تثر اهتمامى فى ذاتها، ولا فى شخص قائلها، فكل الأنظمة الاستبدادية تستخدم أساليب رخيصة فى الترويج لأفكارها عبر شراء الذمم، وما يقترحه هلال لا يختلف كثيرا عما قام به المخرج الألمانى لينى ريفنشتال الذى اخرج فيلما دعائيا عن هتلر وحزبه بعنوان ( انتصار الإرادة ) أستخدم فيه ممثلين ألمان قام بالإغداق عليهم بالأموال مقابل أدائهم لادوار تمجد الحزب النازى وزعيمه .
لكن المصيبة الحقيقية فى نظرى هى فى هذا الصمت المريب من قبل الصحفيين والإعلاميين الذين يعملون فى الصحف المستقلة أو على شاشات الفضائيات الخاصة، والذين قرر الحزب بهذا التوجه تعريتهم تماما، بعد أن ملأوا الدنيا ضجيجا خلال السنوات الماضية فى نقد الحكومة والنظام، واستطاعوا عبر كتابتهم أو برامجهم أن يكتسبوا شعبية هائلة تتجاوز شعبية الوزراء وكبار المسئولين فى الدولة.
تصريحات أمين الإعلام بالحزب الوطنى تعنى ببساطة أن النظام يرى انه أن الأوان لتوظيف هؤلاء وفقا لمصالحه، وأن هوجة الحرية التى أفرزت الكثير منهم قد انتهت، وان ما حققه هؤلاء يرجع فضله أولا وأخيرا للنظام الذى سمح لهم بما هم عليه اليوم، وعليهم أن يردوا الجميل، أو على اقل تقدير الحفاظ على مكاسبهم المادية التى حققوا ورغد العيش الذى يحيونه، بالموافقة على صفقة مع الحكومة والنظام، وهم فى الواقع لن يقدموا أى تنازلات حقيقية، فالتقارير الإعلامية والأمنية لهؤلاء تؤكد أن غالبيتهم مجرد ظواهر صوتيه، وأن استغلالهم لمناخ الحرية الذى فرضته عصى بوش الغليظة على مدار السنوات الماضية، هو السبب الرئيسى لوجودهم، ولما وصلوا إليه من شهرة ومال وسلطة، وأن إنتاج اغلبهم لم يكن أبدا تعبيرا عن معارضة حقيقية لسياسات الحكومة أو النظام، أو نتاج لقناعات ومنطلقات وطنية، أو حتى إنسانية، بل أن الموضوع مجرد بيزنس، وقدرات خطابية أو تمثيلية أو كتابية، يتم استدراج القارئ أو المشاهد إليها لتحقيق مكاسب خاصة، مجرد مكاسب خاصة، فتبنى صوت الناس وهمومهم وألمهم وأفكارهم وطموحاتهم، يعنى تلقائيا رفع نسب التوزيع والمشاهدة، ومن ثم زيادة الحصص الإعلانية، وبالتالى ترتفع الأجور التى وصلت إلى ملايين فلكيه، تفرض بدورها حياة رغدة لا يمكن الاستغناء عنها مستقبلا .
هذا التصور الذى يدركه النظام جيدا، جعله لا يخجل من الحديث عن توظيف بعض هؤلاء الصحفيين والإعلاميين لصالحه، بأسلوب محترف، أى بأسلوب البيع والشراء، واستغلال شهرتهم ومصداقيتهم لدى الناس بدفع عائد مجزى لهم مقابل الترويج للحزب والنظام وسياساته سواء من خلال الصحف والبرامج التى يعملون فيها، أو من خلال أى أشكال إعلامية مستحدثه، ولا يهم أن يكون هؤلاء منتمين للحزب، حتى لا يتم لفظهم جماهيريا، فالمهم ما يقدمونه، وهؤلاء بلا شك سيقبلون الصفقة ويحاولوا أن يقنعوا أنفسهم أنهم إعلاميون محترفون، يمارسون المهنة بحرفية ودون أى موقف، وكأنهم مجرد مسخ بلا هوية فكرية او مواقف وطنية.
وإذا كان الأمر يذكرنا برائعة وحيد حامد ( أحكى يا شهر زاد ) والتى كشف فيها كيف يتم إسكات صوت الإعلامية الحرة عبر إغداق المال والمناصب والأعمال على زوجها، فتوجه الحزب الوطنى لا يبدو مستغربا وفقا للمعطيات السياسية والإعلامية الحالية، والتى جرى ويجرى من خلالها استدراج غالبية الإعلاميين والصحفيين المستقلين للعودة للمؤسسات الحكومية مقابل إغراءات مالية باهظة .
إلا أن المشكلة الحقيقة تبدو فى نظرى، فى الأزمة والشعور بالهزيمة الذى سيعيشه المواطن البسيط التى تم التغرير به خلال السنوات الماضية، والذى جعل من هؤلاء الصحفيين والإعلاميين نماذج يحتذى بها فى الوطنية، ومرجعيات يتم العودة إليها، فى ظل غياب أى دور فاعل لمثقفين وطنيين أو قوى سياسية حقيقة قادرة على حشد الناس وتوجيههم الوجهة الوطنية الصادقة، بدلا من دعاة الاستقلال الكاذب.
ويبقى أن ما يجرى يفرض على القلة الصادقة من الصحفيين والإعلاميين الذين يرفضون مبدأ الرشوة الإعلامية التى يقدمها لهم النظام، أن يعيدوا حساباتهم، وأن يعلنوا دون مواربة فى أى موقع يقفون، ويحتشدون لوضع تصور لكيفية حفاظهم على استقلالهم سواء فى مواجهة الدولة او فى مواجهة سلطة رأس المال التى يعملون من خلالها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة