أمين المكتبة
ذات شتاء بعيد وأنا تلميذ فى مدرسة المحلة الثانوية، خطوت بفضول باتجاه مكتبة المدرسة، ولى علاقة سابقة بالكتب سواء مكتبة أبى التراثية أو مكتبة أخى بكر الحديثة. مسحت حذائى، ثم دخلت، استقبلنى بابتسامة واسعة. كنت ضئيلاً بين هذا الكنز الضخم، وكنت مذهولاً من كم الكتب، وأمين المكتبة المبتسم جلس يتابعنى، بلهفة أبحث بيديى وعينى، أغلفة الكتب أعرفها وأسماء ليست غريبة عنى، وأنا القصير أطراف أناملى لا تبلغ الرف الثانى، جاء بابتسامته العذبة – التى لا أتذكر سواها من ملامحه – وسألنى ماذا تريد؟ قلت: روايات.. قصص.. مترجمة. شد الكرسى ووقف عليه، ناولنى كتاباً، هززت رأسى نفياً وآخر وآخر، ثم مد يده بكتاب، تصفحته مسرعاً، وفرحت فقد كان مجموعة قصص مترجمة، هو أيضاً فرح ثم أخذ يتنقل بالكرسى ويختار لى. منه تعرفت على: إدجار الآن بو، شتاينبك، وأو، هنرى، وليام افلارتى وآخرين، حين أطل برأسى وأقول صباح الخير يا أستاذ، ينهض متهللاً ويقدم لى الكتب وهو يقول: أنظر ماذا جهزت لك. وأصبحنا أصدقاء فى داخل المكتبة أو فى الفناء عندما يلعب التلاميذ ونقف نحن معاً وصرنا أصدقاء لمدة ثلاثة أعوام ثم لم أره من يومها. ومن يومها لم أنسَ ابتسامته العذبة.
مدرس التاريخ
كان نحيفاً طويلاً، صارماً، حين يدخل الفصل نرتعد، أحب مادة التاريخ وأخاف منه، كنا جميعاً عندما نقابله فى الشارع نحنى الرؤوس احتراماً، ونتجاهل عينيه، وكان لنا فى المحلة الثانوية ملعباً منفصلاً عن المدرسة، ملاصقاً لها، نمارس فيه الألعاب الرياضية، فى حصة الألعاب وكنا فريقين نلعب كرة قدم إذا بمدرس التاريخ يستأذن من مدرس التربية الرياضية أن يلعب معنا، وأصبح زميلى فى الفريق، وكنت من هواة تسجيل الأهداف، فى البداية ارتبكنا، كان علينا أن نسلم له كل كرة، ولأنه حريف فقد ذاب فى وسطنا، الطلاب أطلوا من الشبابيك واقتحموا الملعب ليشاهدوا مدرس التاريخ الصارم وهو يصرخ، ويزعق، ويجرى فرحاً حين نسجل هدفاً. بقية اليوم والأيام التالية كانت حكايتى الوحيدة مع أمى وأبى وأصحابى كيف لعب معنا مدرس التاريخ، وإنه مثلنا يضحك ويفرح. وحين رأيته بعد أسبوع ماشياً فى الشارع خفضت رأسى احتراماً وخيل لى أنه يبتسم.
مدرس العلوم
العام الفائت، فى شهر شتوى، ذهبت لصرف المعاش، وغالباً ما نقف بعض الوقت، وإذا به أمامى: مدرس العلوم بمدرسة الأقباط الإعدادية، الذى جعلنى أهيم عشقاً بالعلوم، وبتجاربه فى المعمل، كنت أحبه ويحبنى. لقيته بعد حوالى خمسين سنة، هو .. صار عجوزاً يتكأ على عصا وعلى زوجته العجوز أيضاً، قلت لابد أن أسلم عليه وأقبله وأمضى.. لما لا؟ لن يعرفنى طبعاً ليس هذا هو المهم وتقدمت إليه، وقلبى يدق بسرعة، قلت له: أنا تلميذك وأود أن أسلم عليك فقط. أصر أن يعرف اسمى، فقلت له اسمى الثنائى، هرش شعره الأشيب ثم قال: أنت... وقال اسمى الثلاثى. ذهلت ودهشت، احتضنته، ظل يطبطب على، وتمنيت ألا أخرج من حضنه الطيب أبداً.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة