هناك بالتأكيد حكمة سياسية تجعل دساتير معظم دول العالم المتقدم ذات النظام الجمهورى تحدد فترات ولاية الرئيس بفترتين لا يجوز له الترشح للرئاسة بعدها.. وهناك بالتأكيد حكمة رياضية تجعل معظم فرق العالم المتقدم تقوم بتغيير المدرب مهما كانت كفاءته عندما يشعرون أنه لم يعد لديه جديد يقدمه للفريق.
فى أوائل الثمانينيات بدأ الرئيس مبارك عصره بسلسلة من الإنجازات تمثل أهم ما قام به طوال الثلاثين عاماً التالية.. فى أيامه الأولى مع السلطة خرج جميع معتقلى 5 سبتمبر من السجون.. التقى الرئيس مبارك بأعلام الفكر والثقافة والإعلام، الذين تم رميهم فى السجن "زى الـ....." كما قال الرئيس الراحل أنور السادات فى إحدى خطبه.. بدلاً من ذلك شهدت الثمانينيات صحافة معارضة نشطة كان أبرز نجومها بالتأكيد مصطفى شردى، الذى جعل من جريدة الوفد بجوار صحيفتى الأهالى والشعب أصوات مختلفة ومحترمة وسط منظومة الإعلام الحكومى الرسمى "المتكلس".. كان الحديث عن الديمقراطية يعلو داخل المجتمع المصرى لدرجة أن الفترة الأولى من حكم الرئيس مبارك شهدت عام 1984 أنزه انتخابات برلمانية فى مصر منذ 1952.. رغم أن التزوير حدث فى هذه الانتخابات كالمعتاد "وربنا ما يقطع للحكومة عادة"، إلا أنه كان الأقل فى تاريخنا المعاصر.. وأسفر ذلك عن برلمان تمتلك فيه المعارضة ممثلة فى أحزاب الوفد والعمل والتجمع نسبة معقولة ونشطة داخل المجلس.. ولأن النزاهة الانتخابية نسبية.. فقد تضاءل حجمها فى الانتخابات التالية عام 1987 قبل أن نشيعها إلى مثواها الأخير فى السنوات الطويلة التالية من حكم الرئيس مبارك.
نعود إلى بداية الثمانينيات.. كان الرئيس فتياً يتمتع بالصحة والشباب "ليس فقط بالمقاييس الحكومية المصرية التى تعتبر الوزير شاباً إذا كان تحت سن الستين، وإنما أيضاً بطاقة الرئيس الهائلة على العمل وقوامه الرياضى وقدرته على القيام بجولات ميدانية تستغرق ساعات دون أن تظهر على جبهته قطرة عرق".. كانت زيارات الرئيس الميدانية "المفاجئة" إلى مواقع الإنتاج المختلفة قاسماً مشتركاً فى نشرات الأخبار.. ومهما ابتسم المصريون وهم يتندرون على "فجائية" الزيارة إلا أنهم كانوا يشعرون بالحب والإعجاب بنشاط الرئيس وعفويته وقدرته على التباسط الشديد "بروح ابن البلد" مع أبسط طبقات العمال والعاملات الذين يقابلونه فى الجولات الميدانية.. كان المصريون يرون الرئيس بسيطاً فى ملبسه وحديثه يرتدى فى الصيف بذلة سافارى من إنتاج مصانع المحلة ويرتدى فى الصيف البذلة والجرافته من إنتاج ستيا ليطبق شعار "صنع فى مصر" الذى كان يرفعه ويتبناه قبل أن تصبح السترات "السينيية" الفاخرة هى عنوان ملابس النخبة السياسية الحاكمة فى مصر.. فترة الثمانينيات شهدت أيضاً نشاطاً مشكوراً من الرئيس مبارك فى مجال البنية الأساسية التى كانت منهكة متهالكة جراء الإهمال الطويل وضياع كل موارد البلاد فى الحروب المتتالية.. شهدنا نهضة فى مشروعات الطرق والكبارى والمجارى ومترو الأنفاق والتليفونات.. من عاش فى فترة السبعينيات والثمانينيات يعرف كيف كان دخول التليفون إلى أحد البيوت يستلزم الحجز والانتظار لمدة تصل إلى 15 عاماً.. كل ذلك بدأ يتغير بشكل إيجابى فى كل مظاهر البنية الأساسية داخل مصر.. فى تلك الحقبة كان رفع سعر الخبز قرش واحد يستدعى أن يقوم الرئيس مبارك بنفسه بإلقاء خطاب أمام مجلس الشعب يبرر فيه هذه الزيادة ويتحدث عن "الرغيف الطباقى" طبعاً تستطيع "إذا كنت قد عشت هذه الحقبة" أن تقارنها بما حدث فى المدد الرئاسية التالية عندما أصبح إشعال الأسعار واقعاً يومياً يحدث دون أن يهتم أحد بتبرير ذلك للمواطنين.
التقييم الإيجابى لفترة الثمانينيات يمتد من الأداء الحكومى الداخلى إلى أدائها فى الشئون الخارجية.. فبعد سنوات من القطيعة العربية نجح الرئيس مبارك فى إعادة العلاقات مع العرب بشكل أتاح لمصر أن تستعيد بعض دورها الإقليمى.. عادت جامعة الدول العربية إلى مقرها التاريخى فى القاهرة.. وحدثت جهود نحو التكامل مع السودان وإنشاء مجلس التعاون العربى مع اليمن والعراق والأردن، وهى جهود لا يقلل من شأنها أنها أجهضت فيما بعد بسبب الخلل المزمن فى منظومة العلاقات العربية العربية.. فعلى الأقل كانت مصر تحاول مد جسور التعاون مع محيطها العربى "الحتمى".. وحتى فى السنوات الأخيرة من الولاية الثانية للرئيس مبارك عندما كان عليه أن يتخذ قرارات خارجية صعبة عقب اجتياح العراق للكويت كانت قراراته بالتقارب مع الرياض ودمشق والتحالف مع القطب الأمريكى الأوحد من أجل تحرير الكويت أقرب للمنطق وللمصلحة المصرية والعربية.. جهود الرئيس مبارك الخارجية فى مدتى الرئاسة الأوليتين تضمنت موقفاً متوازناً فى العلاقات مع إسرائيل بحيث يتم الوفاء بالتزامات كامب ديفيد مع إبقاء التطبيع باردا دون التفريط فى أى حقوق مصرية أو عربية، حيث تم استعادة الأرض المحتلة فى سيناء تم تتويجها بمعركة قانونية محترمة قادها الرئيس مبارك بشكل رائع لاستعادة طابا.. وأجمل ما فى هذه المعركة القانونية أنها معركة وطنية استعانت بأهم العقول والكفاءات المصرية بغض النظر عن انتمائها الفكرى والسياسى.. فكان من نجومها الدكتور وحيد رأفت، وهو القطب الوفدى الكبير جنباً إلى جنب مع الدكتور مفيد شهاب ويونان لبيب رزق وغيرهم.
فالأداء الحكومى فى ذلك الوقت كان يجنح إلى المصالحة وعدم إقصاء الآخر وعدم تطبيق نظريات الإستقطاب السياسى واختيار أصحاب الثقة ومحاسيب الحزب الوطنى فى كل المناصب الممكنة.. ولا ننسى أيضاً أن نظرية العناد الرئاسى ضد الإرادة الشعبية كانت أقل حدة مما حدث فى المراحل التالية.. فعندما خرج الوزير زكى بدر عن النص وتورط فى تسجيل نشرته جريدة الشعب المعارضة يتضمن سباباً مهينة للعديد من زعامات المعارضة تمت إقالته على الفور.. "فيما بعد أصبح من الممكن لوزير أن يسب الدين للشعب تحت قبة البرلمان دون أن يجد من يحاسبه".. وربما تكون النقطة السلبية الكبرى فى فترتى الولاية الأولى هو فضيحة توظيف الأموال وتعامل الدولة برخاوة مع القضية فى بداياتها وتعاملها بتهاون مع حقوق المودعين التى طارت فى الهواء.
الولاية الثالثة للرئيس مبارك كانت حتمية بسبب الظروف الداخلية فى مصر، حيث كانت البلاد تخوض حرباً شرسة ضد الإرهاب يسقط فيها كل يوم عشرات الضحايا.. لم يكن التغيير ممكناً أو مقبولاً سواء على المستوى الشعبى أو المستوى النخبوى خوفاً من سقوط الوطن فى فوضى التفجيرات العشوائية التى تقودها جماعات العنف المسلح.. قاد الرئيس مبارك المواجهة مع الإرهاب بشجاعة رغم أنه كاد أن يفقد حياته فى محاولة اغتيال فاشلة فى أديس أبابا.. ولكن فترة مواجهة الإرهاب حملت تغييرات مهمة فى منظومة الأداء الأمنى انعكس بالتأكيد على منظومة حقوق الإنسان.. فقد تم التوسع فى العمل بقانون الطوارئ والتوسع فى تقديم المواطنين إلى المحاكم العسكرية والتوسع فى أوامر الاعتقال لدرجة أن عدد المعتقلين فى مصر قفز إلى ما يزيد على خمسة وعشرين ألف معتقل.. ورغم أن أجهزة الأمن أحرزت نجاحاً فى إنقاذ مصر من هاوية الإرهاب، إلا أن الثمن الذى دفعه المجتمع المدنى المصرى هو زيادة تغلغل النفوذ الأمنى فى مؤسسات الدولة وزيادة معدلات التجاوزات الأمنية بحق المواطنين وهو ما زاد واستفحل فى المراحل التالية.
فى فترة التسعينيات أيضاً بدأ الفساد السياسى يتحالف مع الفساد الاقتصادى بشكل مخيف.. فرغم أن هناك أسباباً اقتصادية عديدة كانت تحتم البدء فى الخصخصة وبيع جانب من القطاع العام وإعادة هيكلة الشركات الفاشلة والخاسرة.. إلا أن طريقة البيع وعدم الشفافية أدى لبيع ممتلكات الدولة بأبخس الأسعار.. وسرعان ما نشأ جيل جديد من رجال الأعمال الذين حققوا مكاسبهم من النفوذ السياسى لبعض رجالات الدولة.. ونشأت متوالية هندسية لا يمكن ملاحقتها، فالفساد السياسى يدعم رأس المال الفاسد.. والجانبان يلتهمان ممتلكات الدولة فى جشع واضح.. وتضخمت ثروات قطاع كبير من رجال المال المستفيدين من هذا الفساد بشكل حقق طفرة مخيفة بين من يمتلكون كل شىء "المال والنفوذ والمنصب" وبين من لا يمتلكون أى شىء.. ورغم أن فترة التسعينيات كانت تحمل قدراً من الرخاء الاقتصادى لقطاعات كبيرة من الشعب المصرى، إلا أنها حملت أيضا بذور الانفجار الكبير الذى حدث بعد ذلك وأطاح بمعظم المصريين تحت خطوط الفقر والبطالة الحمراء.. فكثير من العمال والموظفين خرجوا إلى المعاش المبكر بسبب سياسات الخصخصة.. وسوق العمل أصبحت غير مستقرة، لأن كثيراً من فرص العمل المتاحة أصبحت موسمية أو بعقود مؤقتة.. وبينما كان الأغنياء الجدد يضاعفون ثرواتهم بمتوالية هندسية يومية كانت غالبية المصريين تنفق آخر مدخراتها فى مشروعات صغيرة فاشلة أو اللهاث خلف سباق الأسعار المحتدم.. كل شواطىء مصر دخلت مزاد القرى السياحية.. وكل موارد مصر وإمكاناتها تحولت إلى سلعة يتم بيعها لمن يدفع سعراً أقل وعمولة أكبر.. وأضيف إلى ذلك حالة من التدمير الشامل لمنظومة التعليم.. تم العبث بمصير جيل كامل تحت مسمى الدفعة المزدوجة عندما تم إلغاء العام السادس الابتدائى.. واستمر العبث مرة أخرى عندما تمت إعادة العام السادس الابتدائى لنواجه بدفعة مزدوجة جديدة وفى المرتين كان الضغط على سوق العمل وتحويل الجامعات والمدارس إلى مفرخة للعاطلين.. وتم ضرب الدور الاجتماعى للتعليم الذى كان هو الطريقة الوحيدة المتاحة أمام الطبقة الوسطى المصرية للحراك الاجتماعى.. فقد كان اجتهاد ابن الطبقة الوسطى فى التعليم وسيلته الوحيدة لتحسين مستقبله وكانت الثانوية العامة "بكل سلبياتها" هى الفرصة الوحيدة المتاحة لتحقيق العدالة الاجتماعية، لأن ابن الوزير وابن الخفير كانا يتساويان فى لجنة الامتحان.. ولا يستطيع أحد مهما بلغ نفوذ والده أن يحصل على التفوق دون أن يستحقه.. ولكن الفساد طال حتى هذا المنفذ الوحيد للعدالة الاجتماعية وأصبح الحصول على الدرجات النهائية متاحاً ودخول الجامعات الخاصة يقاس بالحساب البنكى وليس بحساب الدرجات.. وفرص العمل بعد ذلك تحددها الواسطة والنفوذ وليس الكفاءة والمؤهل.
على مستوى الأداء الحكومى شهدت السنوات الأخيرة من ولاية الرئيس مبارك الثالثة تفاقم ظاهرة "العناد الحكومى"، فيما يخص مواجهة رغبات الرأى العام.. أصبح الناس يدركون قاعدة سياسية جديدة، وهى أن المسئول الذى تتكالب عليه الانتقادات سوف يستمر فى منصبه.. وأن من ترتفع شعبيته فوق سقف معين تتم الإطاحة به فورا.. يتندر الناس طبعاً بعمرو موسى الذى طار من منصبه الوزارة ومن الحكومة ومن مصر كلها بعد قليل من أغنية شعبان عبد الرحيم التى رددت ما يقوله الشارع المصرى "الذى أحب عمرو موسى".. وما حدث مع عمرو موسى حدث أيضاً مع كمال الجنزورى وأحمد جويلى وفيما بعد مع عبد السلام المحجوب محافظ الإسكندرية المحبوب.
وهكذا انتهت المدة الثالثة للرئيس مبارك وبدأت معها المدة الرابعة على أنغام أغنية اخترناه وبايعناه وإحنا معاه لما شاء الله.. وإلى هنا ينتهى التحليل الموضوعى لعصر الرئيس مبارك.. ففى المدتين الأولى والثانية كان الرئيس مبارك بشراً يخطئ ويصيب.. ويشهد المصريون أنه أصاب أكثر بكثير مما أخطأ.. وفى المدة الثالثة كان الرئيس مبارك ضرورة فرضتها الحرب على الإرهاب لإنقاذ الوطن من مصير معتم كان بادياً فى الأفق.. كان بشراً يخطئ ويصيب ويشهد المصريون أنه رغم الأخطاء نجح فى الاختبار الأصعب وحقق لمصر انتصاراً ضد الإرهاب.. ولكن فى المدتين الأخيرتين لم يعد التحليل الموضوعى ممكناً.. فقد أصبح الرئيس مبارك دائماً على حق.. يصيب ولا يخطئ.. أخرجه المطبلون من دائرة البشر وأكسبوه بالتقادم قداسة خاصة.. أصبح لا يسئل عما يفعل ولا يستطيع عبقرى من عباقرة الفكر الجديد أن يجيب على أبسط الأسئلة.. لماذا بقى هذا الوزير ولماذا أقيل الآخر؟.. لماذا استحدثت هذه الوزارة ثم ألغيت ثم عادت من جديد؟.. لماذا نصدر الغاز لإسرائيل بعشر الثمن ونترك الصعيد محروماً من الغاز؟.. وسرعان ما اتسعت دائرة القداسة لتجعل من جمال مبارك هو المرشح الواحد الوحيد المقبول من دائرة المنتفعين.. أصبحت النخبة الحاكمة "التى جمعت المال والسلطة معاً" تتعامل مع الناس باستعلاء الأمر الواقع وتكاد تصرخ فى وجوههم على طريقة محمد هنيدى فى أحد أفلامه بمقولة: "جاتكم الهم مليتوا البلد" ولم تعد العلاقة بين الشعب والرئيس كما تعلمناها فى العلوم السياسية "أن الحاكم بيشتغل عند الشعب رئيس".. وتحول الأمر إلى "أن الشعب هو اللى بيشتغل عند الحكومة شعب".
الرئيس مبارك رجل عظيم خدم وطنه طوال سنوات حياته.. خدم وطنه وهو عسكرى وخدمه وهو قائد.. خدمه وهو سياسى وخدمه وهو رئيس وحقق فى كل مراحل حياته انتصارات وإنجازات لهذا الوطن.. ولا يقلل من شأنه أن يطالب المصريون بالتغيير فهو سنة الحياة.. وربما تكون أفضل خدماته لمصر أن يعيد صياغة الدستور ليضمن آليات أفضل لانتخاب الرئيس وتحديد حد أقصى لمدد ولايته بمدتين.. وآليات أفضل لتحقيق الديمقراطية وتداول السلطة والحد من الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية.. فالإصلاح السياسى كفيل بعلاج أمراض الفساد والرشوة والمحسوبية وانعدام العدالة الاجتماعية التى أصبحت تنخر فى جسد الوطن.. الديمقراطية هى الحل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة