لا يكاد يكون لدىّ شك فى أن الصحفى الإسرائيلى، يوتام فيلدمان، الذى ضبطه حرس الحدود المصريون متلبساً قبل نحو أسبوعين بصحبة مهاجر غير شرعى من غانا، قد اعتمد فى حساباته المبدئية إلى حد بعيد على الوزن السياسى لحكومته لدى الحكومة المصرية، وعلى القوة الناعمة لجماعات الدفاع عن حقوق الإنسان، قبل انطلاقه إلى ما كان يعلم تمام العلم أنه جريمة يعاقب عليها القانون الدولى.
هذه إحدى مفردات فن «حساب المخاطرة»، لكنها فقط مفردة واحدة، وهى عادةً مفردة الأمل الأخير، تسبقها بالضرورة مفردات أخرى كثيرة لا يبدو لى من مراجعة المتاح من تفاصيل قصته أنه التفت إليها كما كان ينبغى أن يفعل. يحدث هذا عادةً لأسباب مختلفة، أولها نقص المعرفة، وهو ما يؤدى بالضرورة إلى إضعاف القدرة على القراءة الصحيحة للموقف لتحديد الاستراتيجية الأنسب التى تختلف بالضرورة من موقف إلى آخر. وثانيها، نقص الخبرة، وهو ما يؤدى بالضرورة إلى إضعاف القدرة على رسم الخطط البديلة التى يمكن أن تمثل فى النهاية طوق نجاة. وثالثها، نقص التواضع، وهو ما يؤدى بالضرورة إلى إضعاف القدرة على تجنب الأخطاء الساذجة التى يمكن بسبب أحدها أن يقع ما لا تحمد عقباه.
ويبدو لنا أن ذلك الصحفى الإسرائيلى قد ارتكب جملة من الأخطاء فى هذه المستويات الثلاثة كلها، بل من الواضح أنه كان مشوش الذهن حتى فى حساب مفردة الأمل الأخير التى أشرنا إليها فى البداية. ذلك أنه قرر ألا يحمل معه أى شىء يشير إلى هويته رغم أن طوق نجاته الأخير سيستمد قوته، سواء قبلنا ذلك أو لم نقبله، من حقيقة هويته. لقد كانت مغامرته فى الصحراء، على الحدود، لا بين صفوف الشعب المصرى، وهنا يكمن فارق كبير يعتمد على الاختلاف الشاسع بين الموقف الرسمى والموقف الشعبى من يهودى إسرائيلى يدخل بيوتنا دون استئذان، فحسابات الأمن والسياسة تختلف أحياناً عن حسابات الشعب والعواطف.
يعيد هذا إلى الذاكرة المثال الأقوى والأبرز لصحفى يهودى آخر كان يعمل لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية اليمينية عندما قرر أن يقوم بمغامرة فى باكستان فى بداية عام 2002. تضاربت الأقوال بشأن الهدف من ورائها، وإن كان روبرت بير، عميل وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً، يؤكد أن هذا الصحفى، واسمه دانيال بيرل، كان يتعقب أحد أبرز زعماء تنظيم القاعدة، واسمه خالد شيخ محمد.
تقاطعت طرقنا، هو وأنا، لكننا لم نلتق أبداً وجهاً لوجه، فقد كنت فى زيارة إلى الدوحة قبيل أن يتوجه هو إلى مسجد عمر بن الخطاب فيها طمعاً فى لقاء مع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى، وكنت فى طريقى إلى جوانتانامو لتغطية وصول الدفعات الأولى من أسرى القاعدة وطالبان بينما توجه هو فى الوقت نفسه للبحث عن رؤوسهم التى أفلتت. بعد قليل سيتم اكتشاف جثته ممزقة إرباً إرباً فى حضانة للأطفال، وبعدها بأسبوعين سأتلقى أنا دعوة ممن سأعرف بعد ذلك أنه الرجل الذى كان بيرل يقتفى أثره، وهو الرجل الذى اعترف بعد ذلك بأنه هو الذى اجتث رقبته بيده «اليمنى هذه، المباركة».
بفارق زمنى طفيف لا يكاد يذكر، توجه هو وتوجهت أنا إلى البلد نفسه، فى الظروف نفسها، سعياً وراء هدف واحد. ورغم ذلك، تمزقت جثته إرباً إرباً وعدت أنا بسبق صحفى عالمى، فلماذا جاءت النتيجة فى الحالتين مختلفة إلى هذا الحد الدرامى؟ سنحاول الإجابة على ذلك فى المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة