فى مصر يهوى الجميع فكرة التصنيف، ولن يكون غريباً أن يصنفك أحد كمسيحى أو مسلم، صعيدى أو فلاح، بيئة أو استايل، فى المجلس الأعلى للآثار، أنت أمام تصنيف جديد، معيَّن أم مُتعاقد أم يومية!
إن كنت من المُعَيَنِين فهنيئا لك، فأنت من المرضى عنهم والآمنين، وإن كنت من المتعاقدين فأنت من الضالين الذين رقصوا على السلم، وإن كنت من العاملين باليومية فأنت فى الدرك الأسفل من السلم الوظيفى، واحتمالات صعودك إلى درجة أعلى تكاد تكون معدومة، فى ظل تجبر المسئولين وترفعهم عن الإحساس بمعاناة ثمانية آلاف بنى آدم، لا يشغلهم صباح مساء إلا السؤال عن التعيين.
تخرجك من كلية الآثار، أو من أحد أقسام الآثار بكليات الآداب بالطبع لن يؤهلك للعمل فى أى مكان، وإذا كانت الأعمال عند الله "بالنيات" فالأعمال فى مصر ليست "بالكليات" وسيرا على نهج "حاول مرة أخرى" يظل الحاصل على ليسانس الآثار "قيد التشغيل" حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، أعرف خريجين آثار يعملون بائعين فى البازارات، وأعرف خريجين آثار يعملون "قاطعى تذاكر" فى السينيمات، وأعرف خريجين آثار لا يعملون مطلقا، برغم أنهم من متفوقى الثانوية العامة، وأن كليتهم من كليات القمة، وأن تخصصهم نادر، إلا أنهم يظلون فى الانتظار إلى ما شاء الله، القلة القليلة منهم هى من يسعدها زمانها وتجد مكاناً فى المجلس الأعلى للآثار، ولا يهنئ الواحد بتوظيفه كمفتش آثار حتى تلتصق به كلمة "باليومية" أو "بسركى" أو "أجر نظير عمل" بما يعنى أنه مفتش آثار "ناقص حتة".
الحتة التى تنقصك وأنت مفتش آثار "باليومية" ستنغص عليك حياتك، كل يوم ستضطر أن تتذكر هذه "الحتة" وتدعو الله أن ترى ذلك اليوم الذى ستتكامل فيه "عملا ولقبا" دون زيادة أو نقصان، وللشعور بالنقصان عند المفتشين "اليوميين" مواسم معلومة، أكثرها إيلاما هو آخر الشهر، حينما يضطرك وضعك الوظيفى أن "تبصم" على سركى وكأنك جاهلا لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وأن يؤشر على هذا السركى "ملاحظ عمال" يعرف وتعرف أنه أقل منك تعليما ومكانة، ويمتد هذا الشعور بالنقصان حينما تقول للناس مزهوا "أنا مفتش آثار" فيرتد إليك الصوت معايرا: "باليومية".
ليس لك الحق فى استخراج "كارنيه" يثبت وظيفتك، وليس لك الحق فى تغيير المهنة فى البطاقة الشخصية، وليس لك الحق فى الانضمام لنقابة "العاملين بالطباعة الصحافة والإعلام" التى ألصقوا الأثريين بها لحين الإفراج عن مشروع نقابتهم المستقلة، ولا الحق فى العلاوات ولا الحوافز ولا البدلات، والثمانية جنيهات التى تتقاضاهم فى اليوم، لا تهنأ عليهم، فأحيانا يتأخر المرتب شهر أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة، "أنت وحظك" وحظك هذا قادك إلى أن تعمل بثمانية جنيهات فى اليوم، وفى آخر الشهر يتم حساب الأجر الشهرى الكامل، ولا تغتر بكلمة "كامل" هذه، فسيتم استقطاع أيام الجمع والعطلات والغيابات، ليصفصف إجمالى الأيام على عشرين يوما تقريبا، بمائة وستين جنيها، يخصم منهم 25 جنيها تأمينات وضريبة، ليتبقى لك 135 جنيها، ولك مطلق الحرية فى صرف هذا المبلغ، إلا إذا كان تشغيلك فى منطقة نائية كنويبع مثلا فتصرف أضعاف هذا المبلغ فى المواصلات والمعيشة والأكل والتليفونات، وكله يهون فى انتظار التعيين.
أنت وحظك، هكذا كان يقال "لليوميين" بالمجلس الأعلى للآثار حينما كانوا يسألون عن ميعاد تعيينهم، وفى انتظار الحظ قد تمكث على أمل، سنة أو اثنتين أو عشرة، بعض العاملين فى المجلس منتظرين منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وفى كل سنة تنتشر شائعة "التعيين" فيبتهج الناس، وسرعان ما ينالهم الإحباط واليأس، لطول الانتظار، وضغط المعيشة وتقدم العمر، ترى من هم فى سنك مديرين وترى الأصغر منك يرأسك فى العمل وكل مؤهلاته أنه تسرب قبلك إلى المجلس بيوم أو يومين، ولا أمل فى إصلاح الأوضاع حتى لو جاء اليوم الموعود، فأقصى مدة يحق لك ضمها لسنوات الأقدمية هى "خمس سنوات" والسنوات الباقية ستأخذ مقابلها "معلش القانون كده".
لا تمرض، لا تأكل، لا تنام، لا تحب، لا تحلم، لا تهنأ، فكونك مفتش آثار "باليومية" يعنى أنك مواطن ناقص الأهلية، الآلاف والآلاف فى كل وزارات مصر ومصالحها وهيئاتها مثلك تماما، إلا أن حالك الذى لا يخفى على أحد بدا أصعب الآن حينما رفع وزير الثقافة مذكرة إلى رئيس مجلس الوزراء يطالبه فيها بتعيين العاملين "باليومية" فى المجلس الأعلى للآثار، بعد أن تعهد زاهى حواس أمين عام المجلس الأعلى للآثار بعدم إرهاق ميزانية الدولة بتكاليف المعينين الجدد، وأن المجلس سيتحمل من ميزانيته الخاصة أجور ومرتبات العاملين المزمع تعيينهم، إلا أنه يقال إن وزير التنمية الإدارية الذى حول إليه نظيف المذكرة، رفضها بحجة أن الدولة لا تستطيع تحمل المزيد من الأعباء، فاشرب من البحر، أو كل طوب، ياكش تولع.