قبل نحو أسبوعين حصل صحفى إسرائيلى فى جريدة هاآريتس على إجازة كى يقوم بما يسميه بعضنا «نحتاية» لصالح القناة العاشرة فى تل أبيب، لكنها «نحتاية» كان يمكن ببساطة أن يدفع حياته ثمناً لها. جاءته الفكرة عندما لاحظ تزايد عدد المهاجرين «غير الشرعيين» الذين يفدون إلى إسرائيل من أفريقيا حتى بلغ نحو عشرين ألفاً فقرر أن يعبر الحدود سراً مع مهاجر من غانا عبر مصر.
قصص المهاجرين شرعيين أو غير شرعيين لا تخلو عادة من جوانب شيقة، لكن هذه الجوانب الشيقة تتحول إلى دراما فى حالة تضع نفسها أمام صحفى إسرائيلى مغامر وهى تحتوى على مفردات من مثل: شبكة تهريب، حدود، أسوار شائكة، دولار، أضواء كاشفة، مصر، صحراء قاسية، بدو، تحت جنح الليل، حراس، إطلاق نار، رفح، سيادة، قانون دولى، قتل، احتجاز.
كيف يمكن أن يقاوم رئيس تحرير صحفياً يضع أمامه فكرة تحقيق مصور يحتوى على مثل هذه المفردات الدرامية؟ أنت فى حاجة إلى رئيس تحرير عبيط كى يقول: «لا»، وفى حاجة إلى رئيس تحرير ملائكى كى يلزم نفسه من البداية بقدر معلوم وواضح من المسئولية. معنى هذا ببساطة أن القرار فى هذا النوع من الصحافة الحادة كحد السكين هو قرار الصحفى وأن المسئولية مسئوليته. إنه بروتوكول من العمل أقرب إلى بروتوكول التنصل Deniability المعمول به فى دوائر الاستخبارات: نتمنى لك حظاً سعيداً؛ فإذا عدت سنحتفل بك سراً وإذا وقعت فى أيديهم «مانعرفكش».
الصحفى إذن هو وحده الذى يقع على عاتقه قراءة الموقف وحساب المخاطر على أساس مبدأ لا يقبل التفاوض: أنه لا يوجد تحقيق فى العالم يساوى حياته، وأن الأغبياء فقط هم الذين يلقون بأنفسهم إلى التهلكة دون أن يفكروا فى طريق العودة قبل أن يفكروا فى طريق الذهاب. يمتلئ تاريخ الصحافة الاستقصائية فى العالم بأمثلة مثيرة تقدم دروساً مجانية لمن يريد أن يتعلم فن «المخاطرات المحسوبة» Calculated Risk كى يعود، أولاً، حياً، وثانياً، بأقل قدر ممكن من الخسائر، وثالثاً، بأكبر قدر ممكن من المكاسب. سأمر مع القارئ الكريم سريعاً على ثلاثة أمثلة، أولها للصحفى البريطانى الشهير، نك فيلدينج، الذى اشترك معى بعد ذلك فى تأليف كتاب عن أحداث الحادى عشر من سبتمبر.
فقبل سنوات قليلة لاحظ إعلاناً فى صحيفة تصدر باللغة الروسية فى بريطانيا عن وكالة تعرض خدماتها لتسهيل الحصول على جوازات سفر. بعث إليهم برسالة فقابله عميل سابق لجهاز كى جى بى. انتهى به الحال فى بلغاريا حيث اكتشف «مصنعاً» لتزوير جوازات سفر أوروبية حصل بسهولة على بعضها بصورته وبياناته الشخصية مقابل 100 دولار لا غير للجواز، بل إنه أضاف إليها أيضاً جواز سفر إسرائيلياً.
عاد إلى لندن فاتفق مع رئيس تحرير جريدته، جريدة الصنداى تايمز، على أن يقوم بجولة فى مطارات أوروبا مستخدماً هذه الجوازات لاختبار مدى جودتها. كان يعلم أنه إذا اكتشف أحدهم أمر الجوازات المزيفة فسيقع مباشرة تحت طائلة القانون. لكنه قام بالجولة وعاد سالماً فى هدوء. دق تحقيقه ناقوس خطر مدوياً فى أرجاء أوروبا خاصة فى أجواء ما بعد الحادى عشر من سبتمبر. لكن نجاحه لم يقتصر على ذلك؛ فقد كان من الحصافة بحيث أصر مقدماً على أن تمده الجريدة بخطاب رسمى يشرح مهمته النبيلة ويلتمس من رجال الأمن حسن معاملته فى حال القبض عليه. كان هذا أول خط للدفاع، أما الخط الثانى فتمثل فى مبدأ حسن النية من أجل الصالح العام وهو عادةً ما يمنحك تعاطف القضاة المبنى على تعاطف الرأى العام.
أما المثالان الآخران فهما للصحفى اليهودى فى جريدة وول ستريت جورنال، دانيال بيرل، الذى قُطعت رأسه فى باكستان، ولكاتب هذه السطور، وهو موضوع المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة