
وائل السمرى
بعيداً عن المسئولية، وخارج كادر كاميرات الفضائيات والصحف، وبلا ابتذال أو تصنع، يصبح طفلاً صغيراً، متحمساً وعفوياً وضحوكاً ومتفائلاً، لا يعقد أملاً على أحد سوى الأطفال، يحبهم ويضعهم نصب عينيه ويتفاعل معهم ويداعبهم ويراهن عليهم معتبراً إياهم كل ثروته.
لم أره معتزاً بالتكريمات والأوسمة والمناصب والحضور الإعلامى الكثيف قدر اعتزازه بمجموعات الأطفال الذين يراسلونه من جميع أنحاء العالم، معتبرينه قدوتهم وأمثولتهم ومحفزهم الأول لحب الآثار والتاريخ والمقاتلة من أجلهما، يبتسم إذا تحدث عنهم ويبتسمون حين يروه مهللين فرحين، يخاطبهم بذات لغتهم، فيفهمهم ويفهمونه، ويفرح ويفرحون.
على مدار عقود طويلة تعاملت وسائل الإعلام مع العالم الكبير زاهى حواس باعتباره متخصصاً فى علم المصريات والمتحدث الرسمى باسم الفراعنة، ولم يقترب أحد من زاهى المثقف أو زاهى الإنسان أو زاهى المقاتل الشرس العنيد، وهو بدوره لم يطلب من أحد شيئاً ولم يصرخ ليقول للناس أنا لست عالم آثار فقط، أنا مصرى بكل ما يحمله هذا الانتماء من ثقافة وعلم وجدعنة وشهامة.
على فترات متباعدة تظهر هذه المعانى بلا مواربة، فى الحوار الذى أجرته اليوم السابع معه لمحته يتقمص روح الإمام محمد عبده ويقول "فيها إيه لما القرآن يقول إن الفرعون ظالم وكافر.. ده تلات تربع المسلمين ظلمة وكفرة"، تلك الجملة التى تحمل قدراً كبيراً من المكاشفة البصيرة ذكرتنى بمقولة الإمام حينما عاد من أوروبا، وقال "ذهبت إلى هناك فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت هنا فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً"، ليكشف حواس عن وجه ثقافى متفتح، لا يعتبر الإسلام "بادج" يعلقه الواحد على صدره ليضمن له الوجاهة والعصمة، وإنما الإسلام سلوك وحضارة ومعاملة كما قال رسولنا الكريم، ومن الجائز أن يتصف بالإسلام من هم خارجه وينفى عنه من هم داخله إذا فقدوا شروطه وتهاونوا فى حقه.
دأب زاهى حواس فى الحفاظ على الآثار لا ينتهى عند حد فهمه العميق لمعنى كلمة "أثر"، والذى لا يتلخص فى كونه "فرجة للسياح" وأداة لجلب مزيد من الدولارات، وإنما الأثر هو دليل الوجود، وكلما كانت آثارك جميلة ومعقدة فى فنياتها، كلما ظهرت حضارتك مشرقة وأصبح وجوداً أكثر إفادة للإنسانية، يفهم حواس هذا المعنى وإن كان لا يجاهر به، لكنه دأبه الشديد على الحفاظ على هذه الآثار ومحاولة استرداد المسروق منها يظهر أن للأمر أبعادا أكبر من أن الآثار "شوية حجارة" على حد زعم من لا يعلمون.
مرة بعد مرة يكشف زاهى حواس عن إيجابية حبه للآثار بلده وتاريخها، فيطارد مديرى المتاحف التى تحتفظ بآثار مصرية مسروقة بطرق مبتكرة، وعلى طريقة "التجريص" يحرص دائما على فضحهم فى بلدانهم وخارجها، مستعيناً بأصدقائه "الأطفال" ليساعدوه فى مسعاه، وليكون لهم دور فى إعادة الحق إلى أصحابه، ولا أنسى أبداً عندما أرسل خطابات لأطفال مدارس أمريكا حينما عرض أحد المتاحف الأمريكية أثراً مصرياً مسروقاً يحثهم فيها على عدم الذهاب إلى هذا المتحف، لأن مديره يساعد اللصوص، فنجحت دعوته برغم بساطتها وعفويتها ليثبت أن هناك حلولاً أخرى غير تكليف اللجان وانبثاق اللجان من اللجان وإصدار التوصيات التى توصى بتشكيل لجان لبحث توصيات اللجان إلخ إلخ إلخ.
وطنية زاهى حواس التى لا تقبل المزايدة لا تخشى فى الحق لومة لائم، وهذه الوطنية كنت أحسبها مقتصرة على ما يخص آثار مصرية، لكنه أثبت أن مساحات شغفه لمناصرة الحق أبعد من الحدود الضيقة، وكان أول المتحمسين للانضمام إلى حملة اليوم السابع للوقوف ضد قرارات الحكومة الإسرائيلية اليمينية قولاً وفعلاً، فكتب فى عدد سابق على صفحات اليوم السابع مقالاً شديد الأهمية ليفضح الممارسات الصهيونية المتطرفة ولم يكفِ بهذا التنديد الكتابى، لكنه كان أول من خاطب اليونسكو والجامعة العربية منظمة المؤتمر الإسلامى ليشكل جبهة جماعية ضد الإجرام الإسرائيلى المستفز، وما يدعو للإعجاب الحقيقى بقراراته الأخيرة هو فصله التام بين ما هو يهودى وما هو صهيونى، فلم يقدم الأعذار حينما رمم الآثار المصرية اليهودية، ولم يتوارَ فى إدانة العدوان الإسرائيلى على المقدسات الإسلامية الفلسطينية.
فى إطار حرصه الذى لا ينتهى على استعادة آثار مصر، سيرأس حواس مؤتمراً كبيراً سيقيمه المجلس الأعلى للآثار تحت عنوان "مؤتمر الآثار المستردة" وبحسب ما أدلى به حواس لى، فإن الدول المشاركة فى المؤتمر سيشكلون فيما بينهم تجمعاً عالمياً واحداً للمطالبة بآثارها المنهوبة، وبدلاً من أن تطالب كل دولة سرقت آثارها بحقوقها، ستقف هذه الدول جبهة واحدة للمطالبة ضد سارقى التاريخ، وبحسب علمى فإن المؤتمر سيضع "قائمة أمنيات" فيها أسماء للقطع الأثرية النادرة التى خرجت من موطنها فى غفلة من أصحابها، أملاً فى استعادة هذه القطع النادرة، ما يدعو للإعجاب والتحية لهذه الأفكار الإيجابية لعالم جليل لا يكتفى برفع الشعارات فى حب الوطن، وإنما يترجم هذه التمنيات لتصبح واقعاً يراه قريباً ويراه غيره بعيد المنال.