كعادتى من فترة لأخرى أفتح صندوقى الخشبى الصغير الذى احتفظ به عن جدتى، لاسترجع بعض الذكريات والأوراق الكثيرة التى احتفظ بها داخله.. والمفارقة الغريبة أنى وجدت خريطة للوطن العربى كانت معى, وجدتها ممزقة وتم تقطيعها إلى أجزاء بطريقة منظمة ومرتبة, فبدأت محاولا تجميعها مرة أخرى علها ترجع إلى حالتها الأولى.. فأخذت القطع الكبرى فالصغرى فى المساحة وهكذا, ووقعت يدى على قصاصة تضم تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا, وجدت نزاعا على الصحراء, وجدت شعوبا اجتثت من حضارتنا ولغتنا وهويتنا وتأثرت تماما بجنوب أوروبا, وغابت عن مشاكلنا وهمومنا, ثم وقع فى يدى جزءاً آخر يضم السعودية واليمن وسلطنة عمان, هناك حرب دائرة بين مسلم ومسلم وعربى وآخر عربى, بين بلد الله الحرام ويمن عبدالله صالح يحاربون الشيعة, وفى جنوب تلك الدول وضعت الصومال وجيبوتى وجزر القمر, بلادا فقيرة معدمة مليئة بالأمراض والجهل, محسوبون علينا ولا نشعر بهم ولا نهتم من الأساس.
وما هذه الدويلات متناهية الصغر, الإمارات وقطر والبحرين والكويت, أرى أبنية ارتفعت لما يقارب الألف متر وأرى قواعد عسكرية لأمريكا وأرى ثقافات تتبدل من أساسها منبهرة بالغرب ومتسلحة بالمال الوفير وأرى فضائيات سخرت كل إمكاناتها لتكون شوكة فى ظهورنا, أرى دويلات بلا تاريخ تحاول أن تصنع التاريخ.. وآه على العراق وبغداد, قارنت بين ما يحدث الآن وما حدث أيام التتار فلم أجد فرقا كبيرا, وها هى دمشق لا زال رئيسها وشعبها يعيشون فى حقبة الخمسينيات من القرن الماضى, ولبنان ممزقة بين حزب الله- ومن خلفه طهران- وفئات أخرى كثيرة, ثم فلسطين الحزينة التى أساء إليها أبنائها قبل أن يسئ إليها غيرهم, فتح وحماس، أفى الأسلام جماعات وتكتلات لا يحكمها إلا المصالح الشخصية؟ أهى فتنة كفتنة ما بعد مقتل عثمان؟ الصهاينة يرتبون ويدبرون ويكيدون ونحن نائمون غافلون فى الملذات غارقون. وإذا بيدى تقع على ورقة السودان, ما بين الخرطوم ودارفور وما بين مصالح أمريكا وإسرائيل على منابع الماء والبترول، تاه أبناء الجنوب وتشردوا. ولم يتبق فى صندوقى من القطع إلا اثنتين مكانهم فى المنتصف تقريبا، إحداهما مبهمة ليس لها ملامح ولا تستحق التعليق وأظن انها ليبيا، والقصاصة الأخيرة فى القلب تماما أنها مصر، ولكن ليست هذه مصر التى تربيت فيها والتى قرأت عنها فى القرآن والتى أنتمى إليها وأحبها، تبدو كالجسد العليل الملئ بالأمراض المزمنة، وتذكرت تلك الأبيات لفاروق جويدة من قصيدة هذه بلاد لم تعد كبلادى:
" قد كان آخر ما لمحت على المدى.. والنبض يخبو صورة الجلادِ
قد كان يضحك والعصابة حوله وعلى امتداد النهر يبكى الوادى
فصرخت والكلمات تهرب من فمى
هذه بلاد لم تعد كبلادى"
وأخيرا اكتملت الخريطة صحيح أنى حاولت جاهدا أن أعيد الصورة إلى حالتها الأولى ولكن ما زال التمزق واضحا عليها، وللعين المجردة يبدو الانشقاق والتمزق والتصدع والضعف والوهن، وسألت نفسى لماذا أصبحنا هكذا وهل كنا أفضل من الآن؟ أم أننا لقرون طويلة مضت أمراضنا هى نفس الأمراض والعلل، وقبل أن أعيد الصورة إلى صندوق ذكرياتى وأغلقه وجدت شعاعا ينعكس عليها وإذا به شعاع أمل لأن من فقد الأمل فقد الحياة، إنه أمل من الله لخير أمة، فسبحان الله العزيز الحكيم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة