مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الأرقام لا تكذب.. مقولة كاذبة وخاطئة بل ومشبوهة أيضاً، واقرأوا معى الأرقام فى الصحف لتعرفوا أن هذه الجملة التى نتعامل معها على أنها بديهية أو قول مأثور، لا أساس لها من الصحة ولا محل لها من الإعراب.. وخذ عندك على سبيل المثال لا الحصر.
20% من المصريين مرضى بالسكر.. وثمانية ملايين مصرى مرضى بفيروس الالتهاب الكبدى الوبائى، و50% من المصريين مرضى بضغط الدم المرتفع والمنخفض، و60% من المصريين مصابون بالاكتئاب.. و35% من طالبات الجامعة متزوجات عرفياً، و30% من الفتيات المصريات فى المدن يدخن الشيشة، وأرقام أخرى كثيرة لو جمعناها معاً لما وجدنا فى الشعب المصرى كله من هو سليم أو معافى.
والغريب أن بعض هذه الأرقام يصدر عن هيئات علمية وبحثية فى مصر والخارج.. مركز البحوث الاجتماعية والجنائية، مجلس الوزراء ودعم اتخاذ القرار،هيئة التعبئة والإحصاء، الجامعات والمعاهد العلمية.. المنظمات العالمية.. منظمة الصحة واليونيسيف واليونيسكو.. الكل يدرس ويبحث ويخرج لنا بالأرقام والنسب والإحصائيات.. والجرائد والتليفزيونات تنقلها لنا مجردة ومنزوعة الدسم، ومجتزئة ومحرفة ومنتزعة من السياق الذى قيلت فيه أو من عينة البحث أو جمهور الاستطلاع الذى أجريت عليه، والنتيجة هى هذا الهوس الجماعى بالأرقام والإحصائيات التى فقدت قيمتها وتأثيرها من كثرة ترديدها وتكرارها كالأغانى البايخة والأسطوانات المشروخة.. فلعبة الأرقام ليست جديدة، والحكومات والأنظمة الديكتاتورية هى أول من اخترعت الأرقام وتلاعبت بها وبنا.
وهل يمكن أن ننسى نسبة الـ 99.9% التى كان ينجح بها الرئيس فى أى استفتاء، وهل ننسى تصريحات رؤساء الحكومة المتعاقبين عن حجم النمو ونسبة التضخم ومعدلات التنمية.
ولى صديق مغرم بالأرقام تعقب مرة أحد رؤساء هذه الحكومات وراح يتتبع الأرقام التى يدلى بها حول الموازنة العامة وحجم الإنفاق الحكومى وميزانية الدولة وأرقام الدين الداخلى والخارجى، ووجده يقول فى كل مناسبة أرقاماً مختلفة، ولاحظ أنه كان يقرأ الأرقام فى البداية من ورقة أمامه ثم أصبح يرتجلها حسب الموقف وكأنه يحفظها عن ظهر قلب.. أو كأنه لاعب ثلاث ورقات يحترف الغش والتدليس والتلاعب، مطمئنا ًإلى أن أحدا لن يراجعه أو يحاسبه أويتوقف عند أرقامه، ويقارن ما قاله هذا العام بما قاله السنة الماضية، وما يقوله فى مجلس الشعب، بما يقوله فى جلسات الحزب.
فالأرقام لا تكذب ولا تصدق ، ونحن الذين "نستف" الأوراق، ونلون الحقائق ونجتزئ المعلومات..
وجرب إذا كنت صحفياً أن "تفبرك" أى رقم من دماغك وتستطلع آراء المتخصصين حوله، ولا تنس أن تنسبه إلى مركز بحثى أو جهة علمية أو منظمة دولية، وسوف يجيبونك على الفور، مؤيدين أو معارضين دون أن يكلف واحد منهم نفسه بالتثبت من المعلومة أو الرقم، أو الرجوع إلى المركز أو الهيئة التى قلت له إنها توصلت إلى تلك النتيجة.. فالمهم أن يقول "البقين" وتظهر صورته فى الجريدة أو صوته فى الإذاعة، أو تتاح له فرصة التنظير والتحليل والتعقيب فى برنامج "توك شو تليفزيونى لزوم الشهرة والتلميع!.
إنها حالة عامة من الاستسهال والعشوائية الفكرية وتناول الجد بما هو هزل، والهزل فيما يستدعى الجدية والموضوعية.. ولذلك فقدت المعلومة بريقها وفقد الرقم قيمته وتحول الفضاء الإعلامى الواسع إلى ساحة لحوار الطرشان و"مكلمخانة" منصوبة ليل نهار.. وأصبحنا فى بلد القابض فيه على عقله كالقابض على جمرة من النار!
• نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة