الكتابة الأدبية شعرا كانت أو قصة أو رواية أو مسرحية نشاط إنسانى يهتدى إليه أصحاب المواهب بأنفسهم أو بمعونة غيرهم، وهى اختيار إلهى فى رأى البعض ليست كذلك فى رأى آخرين، ويتعذر علينا فى هذه العجالة حسم هذه المسألة، وليست هى القضية، لأننا إذا حاولنا النظر إليها على أنها قضية فسوف ننتقل - أردنا أم لم نرد - إلى النظريات الفلسفية والآراء الدينية التى لا يزال الشجار بينها محتدما حول طبيعة الخالق ودوره ومدى استمرارية هذا الدور من عدمه.
أيا مّا كان الأمر فإن الموهبة إذا ما اتفقنا على أنها صناعة إلهية، فإننى أميل إلى اعتبارها اختيارا من الخالق وليست تكليفا، لأن الموهبة فى كل حالاتها ومنذ البداية كيان معنوى حر ولا يترعرع إلا فى وسط طليق .. وأى محاولة لحصاره ستفضى لاختفائه.
والموهبة بعامة هى فى الأصل هواية، وقد تتحول إلى مهنة، لكن أجملها ما ظل هواية حتى يتحقق التجديد والإبداع والاستمتاع بالتأمل وركوب حصان الخيال، ولكى تركب حصان الخيال لابد لها من الحرية.. لأن التحرر من كل سلطة يعنى انطلاقة الكاتب لاستكشاف ذاته والعالم بعيونه لا بعيون الآخرين، وبقلبه لا بقلب السلطة، وبثقافته لا بثقافة رجال الدين أو السياسيين، وبمشاعره لا بمشاعر الغوغاء والسوقة.. ولذلك فعندما يقال فى مجالى السينما والمسرح: إن العبرة بالشباك على سبيل المثال، فإن هذا يعنى، الوقوع تحت سيطرة الشباك وسلطة المال وعندئذ يمكننا القول فى يسر.. لقد تهدّم الشرط الأول للإبداع وهو الحرية.
وحين يفرض الأديب على قصته التوجّه نحو الأخلاق من خلال إجبار بطله المنحل على القيام بدور الواعظ، فإن الرواية تنهار لأنها فقدت المصداقية بسبب خضوعها لسلطة اجتماعية أو دينية،
والكتابة الأدبية تبدأ بمحاولة التعبير عن الذات غير المتكيفة مع العالم، ولا يجب أن تبدأ بأى موضوع عام لا ينشغل به العقل والوجدان مهما كان الموضوع العام مقدسا لأن ذلك ضد طبيعة الأدب .. المصداقية هى الرحم الحقيقى لكل إبداع جميل، وهذه المصداقية التى اقتضت احتضان الفكرة بكل حميمية هى القادرة على أن ترفدها وتدعمها باللغة والتشكيل وشتى الأدوات الفنية . أما تكلف الكتابة فيسد الطريق على الوهج والخيال، ويفقد الكاتب القدرة على التحليق والابتكار ويحرمه من الإلهام .
وإبداع العمل الفنى طوال مراحل كتابته وإنضاجه ومراجعته يظل عملاً شبه سرى مثل حمل الأنثى، بمعنى أن الجنين لا يجب أن يرى النور، وبعد أن يضع الكاتب تلك البللورة ويتأملها ويصقلها ويطمئن على كمالها من وجهة نظره، يرى أن الناس يتعين أن تشاركه فيما فكر وأحسّ وتخيل.
والذواقة من الجماهير عادة ينتظرون من الأدب جمالا ومتعة، بل لذة كما سماها رولان بارت.. فغاية الأدب ليس إصلاح المختل ولا تعليم الجاهل ولا هداية الحاكم أو رد الآثم، ولكن غايته تقديم المتع الأدبية والجمالية والتأثير الوديع والهادئ فى نفس المتلقين الذين قد لا يحسون بهذا التأثير إلا بعد سنوات وسنوات، وأجمل النصوص الأدبية ما كان صالحا للعودة إليه وتأمله مرة بعد مرة، ومن هنا فإن جمال الأدب لا يجعله عملا مضجرا لصاحبه لأنه هو نفسه يستمتع بحمله فى بوتقته الإبداعية واحتضانه حتى يحين موعد طرحه على الورق فيراه كائنا جميلا، ومن ثم تقر عينه، وقد يخامره اطمئنان بأن وليده ربما يلقى لدى الآخرين ما لقيه لديه . ولهذا فالكاتب ليس مضطرا لأن يكتب القصة ولا الشاعر مجبر على أن ينظم القصيدة.
وأحسب أن الكثيرين من القراء يدركون أن الكاتب كائن خاص له وهجه وجنونه الجميل وأفضل ما فيه ثماره من الفكر والخيال، ولأجل هذه الثمار فهو محل التقدير والتبجيل والاحترام، وكلما كان الكاتب عاشقا للبشر والحياة كان كائنا رائعا، وهو كما قال ديوجين يحمل مصباحا ليضيء مدينة مظلمة أو يبحث عن الحقيقة فى شوارعها المعتمة، أما فرجينيا وولف فقد قالت أنه يضيء ما بالحجرة فقط، وأرى أن أنوار أعماله الملهمة يمكن أن تتجاوز ليس فقط حجرة ولف ولكنها تتجاوز مدينة ديوجين ربما إلى البلد كله، وربما العالم أيضا .. ألم يفعل ذلك شيكسبير وديستوفسكى ومحفوظ وطاغور وديكنز وغيرهم؟؟.
عن نفسى أعترف بأنى أحب الكتابة وأفرح بها، منذ أن تقتنع أعماقى بالفكرة وخلال فترة احتضانها وإعدادها.. فحين تشعر الأنثى ببذرة الجنين تبدأ فرحتها وتواصل تحاورها معه، وكذلك الكاتب الذى يشعر بالسعادة وكأن العالم قد أصبح جميلا فجأة.
ومن بين ألوان جمال الكتابة أنها عمل فردى وذاتى، وهى تخلص صاحبها من التوتر والغضب لأنه فى كثير من الحالات غير منسجم مع ما يحيط به خاصة فى مثل بلادنا.. إن الكتابة الأدبية هى المنقذة لنا، وبدونها ربما فكرنا فى الانتحار أو بالتأكيد سنقضى أغلب أعمارنا فى السجون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة