مصر هى أمى وأم الدنيا وهى أيضاً أم العجائب، فالمصريون- وأنا منهم وإن أوهمك اسمى بغير ذلك- شعب جميل يفيض دفئا ومحبة للناس رغم كل آلامه وإحباطاته مؤخراً، ولكنه أيضاً ملىء بالعجب العجاب من المتناقضات التى تتعايش فى حياته وثقافته بشكل لا يزعجه على الإطلاق! والحقيقة أننى لا أكف عن الاندهاش وأنا أحدق فى المصريين متأملا عجائب الشخصية المصرية الحميمة المرحة المحبة المدهشة، ومن هذه العجائب التقديس البالغ من المصرى لأمه فى الوقت الذى ينظر فيه للمرأة بشكل عام نظرة فيها الكثير من التسفيه والحط من القدر والتهميش وصولا إلى اعتناق البعض للفكر الوهابى الذى يرى فى المرأة الكثير من العورات التى عليها أن تتوارى بها عن أعين الرجال والمجتمع، وقد جاء رفض الرجال من القضاة مؤخراً لرؤية المرأة قاضية تحكم وتملك حق تطبيق القانون على الرجل والمرأة تأكيداً لهذه النظرة الدونية للمرأة مهما حاول الرجل سربلة موقفه هذا فى ثياب فضفاضة تخفى خوفه من المرأة ورغبته فى قمعها وتسفيهها.
الرجال الذين رفضوا أن تكون المرأة قاضية هم أنفسهم الذين- إن سألتهم- سيدبجون القصائد فى أهمية الأم- مرددين مع الشاعر خليل مطران: "إن لم تكن أم فلا أمة .. إنما بالأمهاتِ الأممُ" - أما إذا سألت رجلا من هؤلاء عن أمه سيقول لك أن لها الفضل بعد الله فيما وصل إليه وأنها أعظم أمهات البشر وأحكم خلق الله. فهى إذاً قادرة على تنشئة وتربية الرجال والأجيال لكنها لا تصلح لفهم القوانين وإصدار الأحكام، الرجل وحده، بعقله الراجح الكامل هو من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة الإعجازية!
وقد لجأ الرجل على مر التاريخ إلى موقفين أساسيين تجاه المرأة يعكسان موقفه تجاه الحياة، كان الموقف الأول– وهو الأكثر شيوعا- هو الموقف المعادى للمرأة المرتعب منها كتعبير عن رعبه من الحياة وخوفه من معاناتها، ويؤدى هذا الموقف المعادى (للمرأة – الحياة ) إلى هروب الرجل من المرأة –الحياة عن طريق الزهد أو التظاهر به أو التدين المفرط لدى البعض، أو إلى المواجهة العنيفة ضد المرأة وشياطينها التى تتلبسها ومحاولة السيطرة عليها والحد من سطوتها بتجريدها من أسباب القوة وتكبيلها بقيود اجتماعية قبلية وتفسيرات متزمتة لنصوص دينية تحرمها بها من حقوق المساواة وتضعها فى موضع سفلى ضعيف، ويكون ذلك عن طريق تشويهها نفسيا بوصفها بأنها شيطانة أو مخبولة أو ناقصة عقل أو عاطفية لا تملك التحكم فى نفسها، وفى نفس الوقت عن طريق تشويه جسدها (الملعون) الملىء بالشياطين بوصفه أنه مبعث الخطيئة لدى الرجل وأنه الإثارة مجسدة وأنه الوعاء الفعلى لشرف الرجل، فى نفس الوقت الذى هو– جسد المرأة– ليس سوى عورة لا تقع عليها عين الرجل إلا ويسقط فى الخطيئة، ولذلك يجب تقطيمه وحجبه عن العيون وحبسه داخل جدران البيوت إذا أمكن.
بينما كان الموقف المضاد هو موقف الرجال المحبين للحياة فى شغف وقوة غير الخائفين منها ولذلك كانوا دائما مقبلين على المرأة يرغبونها ويشغفون بها ويكتبون فيها الشعر ويغنون لها الأغانى ويسافرون لها قاطعين الوديان والجبال مقتحمين من أجلها الحصون والقلاع، كان هؤلاء هم فرسان الحياة وعشاقها من المغامرين والشعراء والفنانين والمبدعين والكتاب والمارقين الشجعان شذاذ الآفاق فى كل مكان وزمان، هؤلاء رأوا فى المرأة كل ما فى الحياة من إثارة ودهشة وسحر وألغاز وغرائز وسمو وشموخ وبهاء وجمال باهر مثير لإرادة البقاء وحب الحياة.
وقد عبر هؤلاء عن موقفهم من المرأة– الحياة تعبيرا فنيا، أى استطاعوا أن يفجروا مشاعرهم المتلاطمة المتوهجة تجاه المرأة– الحياة فى صورة إبداعات فنية فى الكلمة الموسيقى والرسم والنحت والمسرح والسينما بل وفى الإبداعات العلمية التى ما هى سوى تعبير آخر عن الفرح بالحياة والرغبة الطفولية الجميلة فى فك أسرارها وامتلاك مكنوناتها المثيرة.
ولا شك أن هذا الموقف الثانى هو الذى استطاع أن يتخلص من الخوف البدائى القديم من المرأة ويحوله إلى مشاركة مثيرة معها فى صنع حضارة راقية بديعة.
ولأن المرأة كما قال نجيب محفوظ- هى الحياة تسير على قدمين ستظل المجتمعات العربية التى تعادى المرأة وتكبلها بالقوانين والعادات البدانية والنظرة الدونية، ستظل مجتمعات متخلفة روحا وجسدا وفكرا وحضارة .
ولن تتحرر مجتمعاتنا من موتها التاريخى إلا بتحرر المرأة.
• كاتب مصرى مقيم فى الولايات المتحدة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة