على مدار عشر سنوات كاملة قدم فيها موقع "إسلام أون لاين" تجربة جديدة ليست مهنياً فقط فيما يتعلق بالإعلام الإسلامى المستنير، بل ودينياً فى طرح منهج للوسطية والاعتدال، المتشابك مع جميع الأطراف حياتيا وفكرياً وعقائدياً.
قدم مسئولو الموقع الذين لا يعرف أحد لهم انحياز أو توجه، رغم جمعهم ما بين السلفى والإخوانى والمعتدل والمنفتح واليسارى والمسيحى والنيجيرى والأمريكى والفلسطينى، إلا أن الاتفاق على تقديم شكل مهنى بعيداً عن التجاذبات السياسية والانقسامات الطائفية والمذهبية كان واضحاً، لكن هذه التجربة تتعرض الآن للانهيار رغم محاولات المعالجة التى بدأ يتخذها الشيخ يوسف القرضاوى رئيس مجلس إدارة جمعية البلاغ المالكة للموقع ووقف المسئولين عن الأزمة عن العمل، وهنا لابد من التوقف عند أسئلة هامة تتردد فى أذهان الجميع، أولها فى عقول أصحاب التجربة ومن بأيديهم صنعوا التجربة، وهى لماذا الآن يتم هدم التجربة؟ ومن هو المستفيد من القضاء على منفذ كسب احترام الجهات المهنية المحلية والدولية مثل رويترز والاتحاد الدولى للصحفيين؟ وما هو هدف أصحاب جمعية البلاغ؟ وما هو مصير موقع إسلام أون لاين فيما بعد؟ وهل الأزمة كون الموقع موجوداً فى مصر وأغلب العاملين فيه مصريون؟ وما هو دور الدولة القطرية فى الأزمة؟ وما هو الدور الأمريكى والإسرائيلى الذى بدأت الأصابع تشير إليه؟
طوال الأيام الماضية لم يتلقَ العاملون ولا مسئولو الإدارة فى مصر اتصالاً ولا تدخلاً من جهات رسمية على الأقل تبدى لهم تضامنها ولو المعنوى، فلم تتدخل وزارة القوى العاملة ولا مكتب العمل فى وقت يتم فيه فصل 340 مصرياً من العمل تعسفياً، وقطع مرتب أسرهم بدون إخطار مسبق حسبما ينص قانون العمل، ولم ترسل وزارة الخارجية أى خطاب للاستفسار من سفارة قطر فى القاهرة أو حتى لم ترسل سفارة مصر فى قطر رؤية عما يحدث، بل والأكثر من هذا أن جهات مثل نقابة الصحفيين أو لجان مؤسسات حقوق الإنسان، ومنظمة المؤتمر الإسلامى والجهات التى تدعى أنها ترعى الوسطية والاعتدال، لم يرفع أى منهم سماعة التليفون ليعرف ماذا يحدث وما هو مصير هذا العمل ومن فيه.
مقر الموقع يجذب الانتباه، حيث تتدرج ألوانه بين الأزرق والنيلى، تشعر عند دخوله للمرة الأولى بألفة وحميمية وتوحد قلما تراه فى مكان آخر، بالرغم من اللحظات السيئة التى يعانى منها العاملون فى "إسلام أون لاين"، إلا أن الإحساس بأن الجميع كيان واحد كان طاغياً على كل أركان الموقع.
ولكى يظل الجميع يداً واحدة قاموا بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات، كل منها تقوم بدور معين، منها المجموعة الإعلامية المسئولة عن التواصل مع كافة وسائل الإعلام وإرسال الإيميلات لكافة الصحفيين والإعلاميين لتعريفهم بكل ما يحدث أولاً بأول، فى حين تتولى مجموعة أخرى مسئولية الاحتياجات اليومية للمعتصمين من توفير وجبات الطعام والمشروبات، وإحضار بطاطين ومفروشات لكى ينام عليها المعتصمون.
اللافت هو أن المبيت فى مقر الاعتصام لم يقتصر فقط على الرجال، بل وعلى النساء أيضاً، حيث باتت بعضهن، والأكثر من ذلك هو مشاركة الأطفال لأمهاتهم لاعتصام معهن، وكانت كلما تحضر أى صحفية أو موظفة معها أطفالها كان الجميع يصفقون لها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل بإحدى الصحفيات الحوامل فى شهورها الأخيرة إلى التواجد مع زملائها لتشاطرهم ما يشعرون به.
وسط كل ذلك أصيبت الصحفية "رضوى حسن" بحالة من الانهيار نقلت على إثرها إلى المستشفى، لأنها لم تحتمل عدم نشر موضوع كتبته عن الأقصى فى ظل ما يحدث حالياً بالأراضى المحتلة، وفى رسالتها الشفهية التى رددها بدلاً عنها أحد زملائها، قالت "إنها ستنضم إلى الاعتصام وستغادر المستشفى إلى مقر الموقع، وإن هدفها كجميع أقرانها أن تعود إليهم الحياة مرة أخرى بعودة تحديث الموقع من مصر".
هذا الاعتصام يمكن اعتباره أنه أول اعتصام تقنى فى مصر، يعتمد فيه المحتجون على جميع الوسائل التكنولوجية الحديثة لنقل كل ما يدور فيه إلى العالم الخارجى، حيث يقومون عن طريق خدمة ustream على الإنترنت ومدونتهم iolvoice.blogspot.com، بعملية البث المباشر لكل فعالياتهم وهتافاتهم وكلماتهم التى يلقونها أثناء تجمعاتهم، بهدف تأكيد الشفافية فى إعلانهم لمواقفهم وتوعية الرأى العام بقضيتهم، فعندما يرغب المعتصمون فى التجمع كل فترة فى بهو الموقع لإذاعة آخر الأخبار والمعلومات، كان الميكروفون واللاب توب والسماعات الكبيرة أهم تلك الوسائل التكنولوجية الحديثة، كما ابتكر المعتصمون "جروب" لهم على موقعى "الفيس بوك" و"توتير" كوسيلة جديدة لمتابعة أحداث فلسطين كبديل مؤقت عن النشر فى الموقع.
وأثناء تواجد اليوم السابع بمقر الموقع وجدنا أحد الصحفيين يمسك بميكروفون، قائلاً "على جميع المعتصمين بعد إذنكم انزلوا"، وآخر يمسك باللاب توب لتصوير وإذاعة مؤتمر لهم بشكل مباشر على الإنترنت، بكل ما فيه من هتافات وشعارات منددة بطريقة تعامل الإدارة القطرية معهم، وبما يحدث فى الأقصى الذى هتفوا من أجله.
رغم أزمتهم، أكدوا أن أكثر ما يحزنهم أن هذا القرار جاء فى توقيت يعانى فيه أهل فلسطين من ويلات العدوان الإسرائيلى، وكانت علامة النصر أو الشهادة هى أهم ما يشير به المعتصمون فى يومهم الرابع عند ذكر كلمة الأقصى أو القدس.
وحتى يهون المعتصمون على أنفسهم الأوقات الصعبة التى يعيشونها، قاموا بعمل ورش عمل عن الأزمة وكيفية حلها، بالإضافة إلى تنظيم أنشطة اجتماعية وفنية تمثلت فى ترديد الأناشيد الحماسية التى تزيد من رغبتهم فى مواصلة الدفاع عن موقعهم وعن المسجد الأقصى.
لم يشفع لإدارة التحرير فى الموقع أن يستمر هذا العمل طوال تلك السنوات منذ أن أنشئ 1999 وحتى الآن أنهم استطاعوا الفصل بين الإدارة والتحرير، مما حقق لهم مصداقية كبيرة ليس بين صفوف المستخدمين والجماهير، بل بين الجهات المهنية نتيجة الحرص كما يقول عبد الهادى أبو طالب رئيس قسم الأخبار على تقديم المعلومات فى قالب مهنى بعيداً عن أى تحيز أو انتماء، وهو ما فتح الباب أمام سعى مؤسسات دولية لها وزنها المهنى فى إقامة دورات تدريبية مشتركة بينها وبين "إسلام أون لاين"، مثل رويترز والاتحاد الدولى للصحفيين ونقابة الصحفيين المصريين، منها دورة تعمل حالياً فى ظل هذه الأحداث.
ليس هذا فحسب، بل إن رؤيتهم فى تبنى منهج الوسطية والاعتدال فى تقديم الإسلام للآخر واشتباك الإسلام مع الحياة ومع الآخر كما يقول عادل القاضى مدير التحرير جعلهم مرجعية لبعض الجهات العالمية، مثلما حدث فى أزمة المآذن السويسرية والرسوم المسيئة فى الدانمارك وأزمة الحجاب فى فرنسا، فطالبت العديد من المؤسسات البحثية والصحفية بل والرسمية رؤية وتعليق إسلام أون لاين على هذه الأحداث.
وأضاف القاضى أنهم قدموا نموذجاً للتعايش جعلهم محل احترام ومنفذاً لاستقبال كافة الأطياف الفكرية والعقائدية، مع تعامل مهنى منفتح وتقديم رؤية للإسلام تقدم كل ما هى مطروح على الساحة بداية من العلاقة مع الناس ودينها وعلاقة المسلمين مع غيرهم وعلاقة المسلمين مع بعضهم البعض، بل ويصل الأمر فى أبواب اجتماعية يضمها الموقع علاقة الرجل وزوجته وأبنائه فى قالب وقواعد محترمة تهيئ الفرد لحياة صحيحة، منفتحة على الجميع.
الضبابية وعدم إفصاح إدارة جمعية البلاغ عما تهدف إليه من كل هذا، هو السؤال الذى يطرحه هشام جعفر رئيس تحرير المحتوى العربى، الذى كان ضمن لجنة استشارية للتطوير الإستراتيجى وبدأت عملها فى يونيه 2009، قائلاً "لا يوجد أى تفسير ولا حتى تلميح عن السياسة التحريرية التى تنوى الإدارة فى قطر انتهاجها، مشيراً إلى أنهم سمعوا منذ انتخاب الإدارة الجديدة للجمعية أن السياسة التحريرية لا ترضيهم، لكن- وما زال الحديث لجعفر- لم توضح الإدارة السبب ولا التوجه الذى تريده من توجهات ولا ما هى الملاحظات على التحرير الحالي، ولماذا يريدون تغييره.
وهنا يرى كثير من العاملين أن لديهم شكوكاً حول مدى التلامس بين تقرير الكونجرس الأمريكى الصادر فى أغسطس الماضى والذى وضعت فيه الشيخ يوسف القرضاوى رئيس مجلس إدارة جمعية البلاغ وموقع إسلام أون لاين على قائمة الإرهاب لولا تدخل الأمير حمد بن جاسم أمير قطر، واعترف القرضاوى بهذا السر فى منتدى تلاميذ القرضاوى الذى عقد الشهر الماضى، وألمح البعض إلى أن الثمن لرفع اسم القرضاوى كان هو وقف النموذج الحالى لإسلام أون لاين، لكن بدون توثيق ولا تأكيد لمصدر هذه المقايضة.
بل ذهب البعض لأكثر من هذا فى التفاهم القطرى للدولة ذاتها فى نهجها وخلافاتها مع مصر، واستنكار أن يكون مثل هذا الموقع وهو ملكية قطرية خالصة بمساهمات سعودية محدودة موجود فى مصر ويدار بمسئولين مصريين بالكامل دون الإشارة لقطر ودون وجود نصيب يزيد عن 5% من المادة التحريرية يخص قطر وما يدور بها من أنشطة.
كما أرجع البعض أيضا قرار الإدارة فى قطر إلى التفاهم مع جهات خارجية لوقف متابعة ما يحدث مثلاً من انتهاكات إسرائيلية ضد المقدسات الإسلامية والأقصى، إلا أن ضعف هذه الرؤية لا يجعل الكثيرين يلقون لها اهتماماً من العاملين فى الموقع إلا من باب الشجن والحزن على ما يحدث فى الأقصى وخلو أو عجز المحررين من القاهرة إضافة أو عرض هذا على صفحات الموقع.
فيما ذهب مسئول أحد الصفحات بالموقع إلى إمكانية أن يكون النهج الوسطى المعتدل، ورفض بعض أعضاء مجلس الإدارة من أصحاب التوجه السلفى أو المحافظ للطريقة التى تتعامل بها إدارة الموقع مع بعض القضايا الإسلامية.
صفحات الموقع استقبلت كتاباً من أقباط كثيرين أمثال حنا جريس ورفيق حبيب وسمير مرقس وجمال أسعد وسامح فوزى، بل وكتب غربيين ومحللين أمريكان وفرنسيين وسويسريين، وهو ما جعل العاملين فى الموقع على لسان عادل القاضى مدير التحرير يقرون بأنهم غير مسئولين عما يبث حالياً من قطر بعد قطع البث والتحديث من القاهرة، وذلك لتأكدهم أن إسلام أون لاين بسياسته وإصدارة الحالى انتهى بلا رجعة، وأضاف القاضى بأن النسخة المنتظرة غير واضحة المعالم وانهارت عشر سنوات من التعايش والعمل تحت لواء موقع مهنى لم يظهر أبداً أنه صوت قطرى ولا مصرى، ولا سنى ولا شيعى، وحرص دائماً على الوضوح فى الرؤية والقضايا الإسلامية، ومنها القضايا الإصلاحية والديمقراطية مع تجاوز الحركات السياسية بكل تنويعاتها، والأنظمة بكل توجهاتها والمذاهب الدينية والطائفية بكل صراعاتها للخروج برؤية تعبر عن الإسلام المستنير المنفتح.
اليأس والإحباط من العاملين من عودة إسلام أون لاين لما كان عليه جعلهم يفكرون بشكل أكثر عملية وزهو الحصول على مستحقاتهم المادية أولاً جراء إجبارهم على الاستقالة، ليتفرغوا فيما بعد لتخطيط ما يمكن فعله، خاصة أن أعضاء من مجلس الإدارة فى "ميديا أنترناشونيال"، وهى الشركة المنفذة والوكيل القانونى للموقع فى مصر من قطريين وسعوديين يملكون مبنى السادس من أكتوبر، ولديهم رفض واستنكار لما يحدث، وهو ما تمنى معه البعض أن يبدأوا تجربة بذات الروح مرة أخرى وإن كان تمويلها سيكون أقل، ولكن لم تتبلور رؤية نهائية حتى الآن.
العاملون بـ"إسلام أون لاين" يطلبون عودة بث موقعهم من القاهرة.. والسيدات يحضرن أطفالهن للمشاركة.. وبث مباشر لفعاليات اعتصامهم.. وشكوك حول دور قطر لوقف بث الموقع
الخميس، 18 مارس 2010 03:56 م