أكد الشاعر العراقى يحيى البطاط أن الطفيليين والطائفيين والسوداويين يتحكمون فى المسرح السياسى والثقافى بالعراق، وهاجم مؤتمرى قصيدة النثر الأخيرة التى عقدت بالقاهرة، مؤكدا على أن الشعر ليس بحاجة إليها، ووصفها بمؤتمرات تبادل الشتائم بين قبائل فى العصور الوسطى، كما تمرد البطاط على شكل القصيدة فى ديوانه "حديقة آدم" الصادر حديثا عن دار كنعان، ووضع تصنيف "نصوص" على غلاف الديوان عن الديوان والحالة الشعرية الراهنة كان لـ"اليوم السابع" هذا الحوار.
لماذا استخدمت كلمة "نصوص" كتصنيف للكتاب هل جاء ذلك هربا من قواعد الشعر؟
لا أخفيك أنى أردت أن أضع القارئ فى صلب حيرتى أنا، كنت أريده أن يشاركنى قلقى، فهذه النصوص لا تنتمى تحديدا إلى حقل بعينه، يمكنك أن تنظر إليها بوصفها قصائد نثر، أو قصصاً قصيرة، ولكنك ستكتشف أنها ليست قصائد نثر تماماً وليست قصصا بالمعنى المهنى للقصص القصيرة. أحد الأصدقاء اقترح على تسميتها خواطر سردية، وقد وجدت أنه يجانب الحقيقة كثيرا، فهى ليست خواطر، لقد اشتغلت على هذه النصوص أكثر من أربع سنوات، درستها وذاكرتها وحككتها وجرحتها وخمرتها طويلاً.. الخاطرة جنس أدبى له شروطه المختلفة وليست لدى أوهام حول تجنيس هذه النصوص، ربما هى أقرب إلى قصيدة النثر، وكان بإمكانى أن أطلق عليها لقب قصائد، أو أضعها تحت مسمى شعر، ولكنى لا أريد أن أرتكب بحقها وبحق القارئ خدعة تجنيسية، لتكن إذن نصوص، هكذا فكرت، وسأترك لمن يريد، حق اختيار الجنس الذى يراه مناسبا لها، ولكنى متأكد من أنى لم أخطط للهرب من شىء، لا من قواعد ولا من قوانين ولا من شروط.. فلم أسطُ على بنك، وليست لدى مشكلة مع أحد.
إذن ما الفرق بين هذه النصوص والأعمال القصصية أو قصيدة النثر؟
كما أخبرتك، هناك فرق، لا أعرف ما هو بالتحديد، ولكنى أشعر، وأنت أيضاً تشعر به، كما يبدو من سؤالك، نعم ثمة فرق بين نصوص هذا الكتاب الصغير، وبين القصص، وقصيدة النثر فأنا مغرم بالتجريب، وبالبحث عن طرق مختلفة للتعبير، لأن لدينا لغة رائعة، مليئة بالسحر والفتنة، لغة تدعونا للعب معها، والتجريب بها، وقابلة للتطور وقادرة على الولادة وعلى الخلق، المشكلة أن اهتمامنا انصب خلال 1500 سنة الفائتة على فكرة القبض على تلك الطيور وتحنيطها فى أقفاص، بعضها أقفاص محرمة وبعضها أقفاص مقدسة، خشية عليها من الضياع، وفى نهاية الأمر ضعنا نحن وظلت الطيور محنطة فى أقفاص.
لماذا تناولت فى النصوص أسطورة جلجاميش رغم تكرارها فى الكثير من الأعمال، ألا ترى أن السابقين استهلكوها فى أعمالهم؟
الأساطير جاءت لكى تبقى، وإلا ما كان لها أن تصل إلينا، ولهذا تسمى أساطير أو ملاحم، إنها نصوص كونية، وليست حكراً على أحد، البشر كلهم يفخرون بالأهرامات، ويعدونها من عجائب الدنيا وليست من عجائب مصر فحسب، ويستطيع أى مهندس معمارى معاصر، سواء أكان مصريا أم فرنسياً أن يستلهم هندسة الأهرمات ويبنى صرحه، دون أن يجرؤ أحد على لومه، لا الآن ولا بعد ألف سنة، لن يلومه أحد ويقول له لا يحق لك استلهام فكرة الهرم فى معمارك، لأنها أصبحت مستهلكة وملحمة جلجامش، أسطورة عراقية، ولكنها أيضا كونية الدرجة نفسها، يعنى يحق لك أنت كمصرى أن تفخر بها، مثلما يحق للإنجليزى والهندى أن يفخر بها، مثلما يفخر بها العراقى، لأنها علامة من علامات تطور الفكر الإنسانى، وقفزة شعرية هائلة حققها الجنس البشرى، وليس قدماء العراقيون فقط. لذا فإن استلهامها أو الاهتداء بأنوارها سيبقى متاحا للجميع فى كل زمان ومكان و أفضل أن أنظر إلى الأسطورة بالطريقة التى ينظر فيها السائق إلى المرآة الخلفية فى سيارته، المرآة التى تضىء له حركة السيارات خلفه، كى يستطيع أن يحدد طريقه وهو يتقدم إلى الأمام.
وتناولت أيضا "تيمة" الخروج من الجنة رغم تكرارها فى الكثير من الأعمال الأدبية، فلماذا جعلتها تيمة النصوص الرئيسية؟
اقترحت حديقة أخرى لآدم، فكرت له بجنة من طينة مختلفة، جنة أرضية كانت يوماً موجودة فى سومر وبابل وآكد وآشور وبغداد، ربما هى الجنة التى ضيعها آدم العراقى على الأرض، وليست تلك التى ضاعت منه فى السماء، (حديقة آدم) نص طويل احتل مساحة مهمة من الكتاب، ويمكننى أن أصفه بلا مبالغة بأنه نص ملحمى ويحتمل الكثير من الكلام، لذا وجدته يستحق أن يتصدر عنوانه، عنوان المجموعة برمتها.
هل تابعت مؤتمرات قصيدة النثر التى عقدت فى مصر؟
لم أهتم، ولم أتابع مؤتمرات قصيدة النثر التى عقدت فى القاهرة، ولم أعرف ماذا كان يدور فى أروقتها، سمعت بها فقط من خلال الإيملات الكثيرة التى كانت ترد إلى عنوانى الإلكترونى، وكنت ألقى بها فى كل مرة فى سلة المهملات.
وما أسباب هذا التجاهل رغم كونك معنيا بالأمر؟
لأن هذه المؤتمرات أشبه بمؤتمرات لتبادل الاتهامات والشتائم، بين قبائل من القرون الوسطى ولا أدرى لما يصر بعض الناس فى القاهرة على عقد مثل هذه المؤتمرات البائسة؟، وما هدفهم منها؟ هل يريدون أن يروجوا لقصيدة النثر مثلاً، وأن يبحثوا لهم عن اتباع جدد ينضمون إليهم، أم أنهم يريدون أن يثبتوا لشعراء قصيدة التفعلية، أو شعراء القصيدة العمودية أنهم يستحقون لقب شعراء. أم ماذا؟ أم أنهم وبعد أكثر من نصف قرن على ولادة هذا الشكل الشعرى فى اللغة العربية، تذكروا أن القاهرة تخلفت كثيرا عن شقيقاتها بيروت ودمشق وبغداد، وأن عليها الآن تستدرك ما فاتها؟
وهل ترى أننا يجب أن نخصص للشعر مؤتمرا للترويج والدعوة له؟
يا عزيزى الشعر ليس بحاجة إلى مؤتمرات، ولا يحتاج إلى مظاهرات، ولا إلى نقابات أو جمعيات سرية، الشعر بطبيعته نبته برية تظهر من حيث لا تتوقع، وتتوهج من حيث لا تنتظر، أما هذه المؤتمرات الساذجة فهى ليست سوى حركات بهلوانية يروج ويطبل لها مجموعة من الفاشلين.
هل ترى أن الوضع الثقافى أيام صدام حسين أفضل من الآن؟
إذا كنت تقصد وضع المؤسسة الثقافية، فالمقارنة بين الوضعين كالمقارنة بين أيهما أكثر سوادا أول الليل أم آخر الليل، لأن الأنظمة الشمولية الدكتاتورية تسعى دائما لتجنيد كل شىء لخدمة أهدافها وديمومة بقائها، الأدب والرسم والغناء والمسرح، والأمطار، وخسوف القمر، وفوز الفريق الوطنى بكرة القدم، ومقتل الأميرة دايانا، لهذا كانت الثقافة العراقية مكبلة بشروط الدكتاتور، وطفيلياته أما الآن فإن وضع الثقافة العراقية لا يقل سوءا عن السابق، بعد أن سيطرت نسخ أخرى من الطفيليات الطائفية والمناطقية والدينية والسوداوية على المسرح السياسى، وحاولت أن تخضع الجسد الثقافى العراقى لشروطها، ولكنى أراهن دائما على الثقافات الحية وعلى النبض الحقيقى والعميق فى جسد الثقافة العراقية، وأرى أنه سيزدهر فى نهاية المطاف، فالثقافة الحية ابنة الشعب ولا يمكن أن تموت، وإن بدت صامتة.