جاء هذا الدعاء على لسان سيدنا إبراهيم - عليه السلام- وهى تعنى: يا رب اجعل لى من يذكرنى بالخير بعد مماتى، وهو ما تحقق لفضيلة الإمام الأكبر أ.د/محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر- رحمه الله وطيب ثراه- فقد قيض الله له من بين مخالفيه من يكتبون عنه أو يُشهدون الناس على مواقف حضروها أو بلغتهم عن مصدر ثقتهم، مما يفيض الدمع من عين محبيه، لا لأنها نقطة من بحر ما يعرفونه عنه ولكن لأنها شهادة من مخالفيه الذين ندموا وقالوا: ما عرفناه إلا بعد وفاته.
كل ذلك يذكرنى بصلاة عشاء صليتها مع فضيلته - رحمه الله وطيب ثراه- وذلك منذ خمس سنوات بحضور أبنائه، وكان يقرأ آيات من سورة الأعراف - قراءة مؤثرة جداً- إلى أن وصل إلى قوله - تعالى- {أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } عندها لم تعد رجلاى تقوى على حملى.
اجتمعت الآراء على أنه جمع فى تفسيره الوسيط روائع ما كُتِبَ فيما سبق من كُتُب وانتقى لنا من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، ولم يكن ليذكر أحد العلماء أو أئمة التفسير الذين استقى من علمهم إلا ذكرهم بالخير ودعا لهم بالرحمة.
من أنواع الصبر: صبر على الطاعة، ويتجلى ذلك فى أداء صلاته وانتظامها فى مواعيدها مما أعطانا القدوة مهما اشتد بنا التعب.
داوم على صلاتى الفجر والعشاء فى المسجد المجاور لمنزله حتى فى أشد أيام البرد مع تقدم سنه (حفظه الله فى كبره كما حفظه فى شبيبته).
عُرِفَ فى جميع مراحل حياته بالتزامه بموعده، حتى إذا ما تخلف عن موعد كان ذلك حتماً أمراً خارجاً عن إرادته، يذكرنى ذلك بيوم 18/12/2008 يوم نُقل إلى مستشفى وادى النيل.
كان فضيلة الإمام - رحمه الله- يغضب للحق، ويرضى عن الخير، ويجرى فى الاعتقاد على الإخلاص، وفى القول على الصراحة، وفى العمل على الجرأة، وفى الرأى على الاستقلال، وفى الحياة على التمرد، كان أفهم العلماء لكتاب الله: فبراهين قضاياه من قواعده، وبينات دعاواه من شواهده، ومضامين مؤلفاته من هديه.
كان والله بعيد المدى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل العلم والدين، ويقرب الفقراء والمساكين، لا يطمع القوى فى باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
أنا تلميذة فضيلة الإمام - رحمه الله- على مدى بضع سنوات، اقتربت فيها من شخصية ربانية متواضعة عطوفة راقية طاهرة نقية منظمة حازمة، وكل كلمة أقولها سيسألنى الله – عز وجل- عنها.
قبل أن يمن الله - عز وجل- على بلقائى بفضيلة الإمام - رحمه الله- كانت أمنيتى الكبرى أن أراه ولو مرة ولو كان السبيل أن أكون الأولى على مستوى الجمهورية، لأنى أعلم أنه يكرم المتفوقين، ولم أكن أعرف سبيلاً غير ذلك.
ولكن شاء الله - تعالى- أن ألقاه - ليس فقط مرة بل مئات المرات- والحمد لله، وليس فقط مجرد اللقاء بل الاقتراب من هذا العالم على مستويات مختلفة، وأقسم أن ما تحقق لم يكن ليخطر لى على بال، بل لم يكن فى نطاق الأحلام، وذلك يذكرنى بقوله - رحمه الله- "عودنى خالقى أن ما يختاره لى خير مما أختاره لنفسى".
منذ أن عرفت نفسى وأنا أحب فضيلة الإمام ومع الأيام انتقل الحب من الفطرة إلى الفرض- على مثل قوله - تعالى - طوعاً وكرهاً- ذلك أن النفس الإنسانية جبلت على حب من أحسن إليها، وفى ذلك حدث ولا حرج، ولولا ضيق المقام وأن يُساء الفهم، لكتبته مفصلاً، ولكن كل من يعرفنى يعرف ذلك ويعلم الله أنى أحبه أكثر من نفسى.
كنت أتتبع ما يُكتب فى كل موقف استباح الكثيرون أن يقولوا فيه كلاماً أنزه نفسى عن وصفه، ولم يقدر الله أن أرد ولكن ليس ذلك عن جبن أو عجز، ولكن لعله بعد ما أصبح فى جوار ربه لم يعد يمكن تأويل كلامى تأويلاً خاطئاً.
كنت لا أتحمل مرور أسبوع دون أن أحضر دروسه، وكنت أتمنى أن أسبقه إلى جوار الله، لأنى لا أستطيع تخيل الحياة بدونه، لكن سيأتى يوم نلتقى فيه دون أن يتبعه فراق، وعزاؤنا أن يُصلى عليه فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن يدفن فى البقيع، وهو ما كان يتمنى وكنت أحس أن الله - تعالى-سوف يحقق له أمله إلى الحد الذى كان يجعلنى أشد قلقاً عليه عندما أعلم أنه سيسافر إلى السعودية بما فى ذلك أداء مناسك الحج، وسبحان الله تكون وفاته فى ربيع الأول.
فى بداية معرفتى به كنت لا أعرف المكتبات التى تباع فيها كتبه، ولكن عندما أشترى كتاباً أجد عليه قائمة بأسماء بعض الكتب وكنت أتتبع مسار الكتب حتى أنه ذات مرة وصل بى المطاف إلى المطبعة وليس المكتبة، لأن العنوان كان قديماً وتغيرت أسماء الشوارع، وحقاً يشهد الله كم تعبت حتى أجمع ما يمكن من الكتب، ولكن تبقى لى بعض الكتب التى نفدت من المكتبات، وعندما أخبرته قال لى "تعالِ المشيخة" وفتح مكتبته الشخصية بنفسه وسلمنى الكتب بيده (بعض الكتب فيها كتابة بخط يده) بكل فرحة وتواضع وكنت أحسب أن ذلك موقف استثنائى ولكن تتابعت المواقف فقد كان يوزع الكتب بل والمجلدات على تلامذته وكان يأتيهم ليسلم لهم شهادات التقدير فى حفلات التخرج وكنت أتعجب وأقول سبحان الله ما رأيت أحداً يفعل ذلك وذلك ما كان يفعله فى تفقده للبنات فى مدينة البعوث فكان يأتيهم ويسألهم عن حالهم.
كان- رحمه الله - يقدم رفاقه فى الخروج من الباب وهكذا بكل تواضع، وينتظر أحدهم إن تأخر، ويسأل عن غائبهم، ويبادر بالتحية والسؤال عن أسرهم وحالهم.
كان- رحمه الله - يحرص على أن يبلغ تلاميذه بإلغاء الدرس ولو بالاتصال المباشر وخاصة فى حالة سفره، ولو نسى فإنه يعتذر وسط دهشة المستمع وإعجابه.
كان يحرص على راحة تلاميذه، ويفرح برؤيتهم، ويدنيهم ويرحب بهم، ويقول إن أسعد لحظات حياته التى يكون فيها بين تلاميذه يعلمهم ويعيش فى رحاب القرآن الكريم، ويدعو الله - تعالى- أن تكون هذه المجالس خالصة لوجهه الكريم.
أذكر أنه عندما كان فضيلته يصلى فى الأزهر كان يخطب الجمعة، ولما انتقل إلى مدينة البعوث فإنه ظل يخطب عدة مرات إلى أن أصبح يصلى مأموماً، وذات مرة اتصلت بمنزله وتصادف أنه لم يعد بعد من صلاة العشاء فردت على المكالمة زوجته - رحمها الله- وقالت إنه سيعود - بإذن الله- فى حدود الساعة.... وسألتنى إن كان هو يعرف رقم تليفونى أم لا (فى بدايات معرفتى بها) وقلت لها نعم، ولم أكن أعرف لماذا؟ وقبل أن يحين الموعد بدقائق، فوجئت باتصال من فضيلة الإمام - رحمه الله- وسألته عن الدرس وطلبت منه أن يخطب الجمعة التالية، فقال لى سأفعل إن شاء الله، وبالفعل صلى بنا فى الغد - رحمه الله- وتكرر الطلب إلى حين أن قال لى إنه يريد أن يرتاح، وحينها شعرت بالحرج والأسف خاصة وأنا أعلم أنه أيام الأزهر كان يخطب الجمعة ثم يؤدى الدرس لمدة تفوق 90 دقيقة متواصلة، فكان يعتريه التعب الذى لم يذكره أبداً ولم يبده لأحد. علماً بأنه يقوم لصلاة الفجر ولا ينام بعدها يستعد لأداء الدرس إلى حين موعد صلاة الجمعة، هكذا قال لنا فى موطن القدوة عندما كان يؤكد على أن نتفانى فى العمل ونثق أنه لن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، وكان يقول "مادام فى حياة" ولم يقل "صحة" وكان دائماً يستشهد بقول الإمام أحمد ابن حنبل "مع المحبرة إلى المقبرة"، ويقول "لا تحسب المجد تمراً أنت آكله، لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر"، ومن الحكم التى طالما ذكرنا بها.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره..
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره.
وكان يقول "إن الحق لن ينقلب باطلاً، ولو قل متبعوه وإن الباطل لن ينقلب حقاً ولو كثر مشايعوه-{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ}.
وكان يؤكد دائما على قول الإمام جعفر الصادق: "إن الله أراد بنا أشياء وأراد منا أشياء، فما أراده منا أظهره لنا، وما أراده بنا أخفاه عنا، فلماذا نشغل أنفسنا بما أراده بنا عما أراده منا".
وكان- رحمه الله- دائماً يؤكد على وحدة الرسالات، وأنها تقوم على أصلين أساسيين: إخلاص العبادة لله والتحلى بمكارم الأخلاق، وأن الإسلام هو دين جميع الأنبياء.
وفى نهاية مقامى هذا لا يسعنى سوى الدعاء له والوعد بأن أكون لسان صدقه فى الآخرين، وعلمه الذى ينتفع به، وصدقته الجارية، وأقول له: طبت حياً وميتاً.. أما الموتة التى كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم.
إلى اللقاء فى جنة الخلد يا من أحببناك بروح الله على غير أرحام بيننا وإننا لنرجو أن نكون ممن قال فيهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم- "إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: قوم تحابوا فى الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
* تلميذة فضيلة الإمام الأكبر رحمه الله.
طالبة ماجستير بقسم هندسة العمارة جامعة الأزهر.
هبة حسن الموافى تكتب.. وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْآخِرِينَ
الأربعاء، 17 مارس 2010 08:50 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة