شوقى حافظ يكتب.. 152 فهرنهايت

الثلاثاء، 16 مارس 2010 12:45 م
شوقى حافظ يكتب.. 152 فهرنهايت

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
العلم والثقافة عدوان طبيعيان للفاشيين والمتطرفين والغزاة وأصحاب النزعات الاستعلائية، والتاريخ يؤكد لنا أن تجفيف منابع العلم والثقافة وتقويض دعائم أى تقدم علمى كان هدفا رئيسيا لهؤلاء، فعندما رفعت بغداد رايات الاستسلام البيضاء أمام هولاكو، لم يكتف الأخير باستباحة المدينة وقتل أهلها وحرق بيوتها وذبح خليفتها العباسى المعتصم وولديه، بل أغرق محتويات مكتبة بغداد فى نهر دجلة وقتل معظم علماء المدينة واستمال بعضهم إليه، فى مواجهة غير متكافئة بين قوة غاشمة ليس لها أى جذور حضارية، وحضارة تراكمت طبقاتها منذ قوانين حمورابى إلى خلافة إسلامية مزدهرة بعلمها وثقافتها فى عاصمة العباسيين.

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ففى العام الأول من الغزو الأنجلو – أمريكى لبلاد الرافدين، وطبقا لتقارير رسمية أميركية، تم استلاب أهم محتويات مكتبة بغداد من الكتب والمخطوطات النادرة، وتمكن الغزاة بتعاون وثيق مع جهاز الموساد الإسرائيلى من قتل أكثر من 350 عالما فى مختلف التخصصات والمعارف الإنسانية، خصوصا فى العلوم البحتة والتطبيقية، إضافة إلى أكثر من مائتى أستاذ جامعى فى مختلف التخصصات، والعدد النهائى المستهدف – كما تشير التقارير الأمريكية – يتجاوز ألف عالم عراقى مطلوب تصفيتهم جسديا، مع إغراء بعض آخر للعمل خارج العراق، والأسلوب الأمثل من وجهة نظر الغزاة لاغتيال هذا العدد الضخم من العلماء، هو إشاعة الفوضى وانتشار أعمال العنف التى تعتبر مناخا مثاليا لتصفية هؤلاء، وإلقاء اللوم على (الإرهابيين).

وتوازى مع هذا التقويض المنهجى لأساس النهضة العلمية فى العراق، اجتياح وسلب كل متاحفه ومقتنياته الأثرية التى يرجع عمر بعضها إلى سبعة آلاف عام، ولا فارق يذكر بين الاجتياح المغولى والأمركى لبلاد الرافدين، من ناحية احكام السيطرة على ثرواتها واستنزافها بشكل جائر غير مشروع، وتجفيف منابع النهضة والتقدم بأساليب متماثلة، ووصم المعارضة المشروعة للغزو الأجنبى بالارهاب.

وفى عام 326 للميلاد أصدر الإمبراطور الرومانى أوغستوس مرسوما أكد فيه أن المسيحية هى الديانة الرسمية للدولة وتوابعها، حيث إن مصر كانت ولاية رومانية وقتها، فقد أقبل كثير من أهلها على اعتناق الدين الجديد خصوصا فى مدينة الإسكندرية التى كانت تضم فى ذلك الحين جالية يهودية كبيرة، ونشب صراع بين المسيحيين، ومن كانوا لا يزالون يعتنقون ديانات الفراعنة، وكان اليهود طرفا فى هذا الصراع لرغبتهم فى الانفراد بأنهم أصحاب أول دعوة للتوحيد.. ومكتبة الإسكندرية التى كانت تضم برديات القصة الكاملة للفرعون إخناتون أول من نادى بالتوحيد، كانت ضحية هذا الصراع الثلاثى.

كانت المكتبة تضم أكثر من مائتى ألف مخطوط مع قاعات للدراسة ومتحفا للفنون، وكانت عالمة الرياضيات الشهيرة (هيباتيا) تعقد فيها ندوات ومؤتمرات علمية يشارك فيها نخبة من العلماء المعروفين فى ذلك الوقت، بما حول المكتبة إلى مركز إشعاع علمى وثقافى يقوم بدور تنويرى مناهض للتعصب والتطرف، الأمر الذى جعل هيباتيا مصدر خطر لمن يحاولون تزييف التاريخ وتكريس تميز عنصرى يدعونه، فتم إحراق المكتبة من الداخل بفعل فاعل، وتعرضت هيباتيا للضرب بأيدى مجهولين فى أحد أزقة غرب الإسكندرية، بما أفضى إلى موتها.

ويبدو أن هذه القضية الإنسانية العامة ستظل أبدية فى طرحها وصراعاتها، ففى أواخر السيتينات قدم المخرج الفرنسى المبدع فرانسوا تريفو فيلمه الشهير (451 فهرنهايت)، والاسم يعنى درجة الحرارة التى يشتغل عندها الورق فيتحول عصير العقول المدون عليه إلى أكوام رماد.. الرعب الدائم من سلطة فاشية كان يدفع الجميع فى الفيلم إلى حمل كل ما لديهم من كتب وإلقائها فى محرقة عامة، ومن لا يزالون يؤمنون بقيمة العلم والمعرفة والثقافة كانوا يهربون إلى أطراف الغابات ويلقنون الأجيال الجديدة ما يحفظونه من نتاج العقل البشرى فى مختلف العلوم والفنون والآداب.. وهكذا تكون مواجهات الفاشيين والمتطرفين والغزاة : أولا مع العلم والمعرفة وأدواتهما، ثم مع العقول التى أبدعت كل هذا، وينتهى الأمر – غالبا- باغتيال هيباتيا!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة