أحمد بدرالدين يكتب: وقع الغروب

الإثنين، 15 مارس 2010 04:18 م
 أحمد بدرالدين يكتب: وقع الغروب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لفح هواء النهر وجهها أخيراً بعد شقاء، نامت الشمس فى أحضان النهر, ضمها بحب وهيام وكأنهما عشيقان تلاقيا بعد فراق دام طويلاً, حل المساء وبدأ القمر يغازل النجوم, هنا يحلو للعشاق السهر على ضوء القمر, عندما تنام عيون البشر ويركن الجميع للسكون, عندها فقط يتعانق العشاق وتتهادى الأحلام على ضوء القمر.

هنا فى أسيوط يشق النيل طريقه باقتدار, عندما تجف أنهار العالم يخالف النيل ما تعاهدت عليه الأنهار, ينبع هناك من تلال أفريقيا البعيدة, لا يأبه لشئ, يخترق الصحراء الممتدة, يقهر الصخور الصلدة الواقفة بهيبتها تعيق طريقة الشاق, تنزلق مياهه برشاقة كأنها راقصة باليه أتقنت تلك الحركات بعد شقاء, يملأ الصمت بهديره وينثر رذاذ الماء فى الأجواء فيضفى عليها طابعاً كلاسيكياً رومانسياً مرسوماً بريشة تعرف كيف تتناسق الألوان, كشاعر حزين وسط مجاهل ودروب الحياة لكنه يدرك كيف يكون البيان.

يشق مصر من جنوبها, عند صدفا يخترق أسيوط معلناً قدومه كجنود الرومان, هائجاً مضطرباً من هول ما رأى, على جانبيه تقبع معابد الفراعين, على ضفاف الوادى المسلات وأبراج الكنائس وقباب المساجد وكأنها شاهدة على تلك الحرب الضروس التى يخوضها النيل.

يمر بأبو تيج وصولاً إلى أبنوب فمنفلوط وتنتهى رحلته عند ديروط حيث المحطة الأخيرة فى وادى أسيوط هناك فى شرق ديروط وعلى ضفافه داعب الهواء جفونها, لفحها محملاً برذاذ الماء فبعث فيها حياة أخرى كانت فى حاجة إليها, فستانها الأبيض البسيط كان يتراقص على أنغام الهواء, يكشف ساقيها فتميل بحركة عفوية لتسدل ذيل فستانها , فيتذمر النيل باقتضاب, تستغرب وكأنها تسمع صوت آلهة الفراعين تأتى من جوف المعابد تعلن سمة الوقار على المكان , لكن عبوسها شغلها عن الإنصات.

جاء صوته من خلفها لتلامس أنفاسه شعرها الذى يعلوها كتاج قديم من أزمان آلهة الحب, نظرت إليه دون تحفظ أو تردد عيناها الواسعتان, شفتيها ترسم تلك الابتسامة الودودة , "معلش اتأخرت عليكى شوية عشان الحاج كان عاوزنى فى مشوار بعد صلاة المغرب" صوته ينبع من حناجر مختلفة متلاصقة تراكمت فيها رعونة النهر وتقلبه وأبديته وفوق كل هذا وقار الملوك, كانت تقسم له دائماً انه من سلالة ملوك غابرة, إيزيس وأوزوريس بعد علاقة حب أنجباه, لا بل هو أعمق من ذلك وكأن السماء جثت على النهر فى جوف الليل فجمعتهما علاقة آثمة خالفت نواميس الكون فكان نتاجها هذا الملك الغابر الواقف أمامها, له كتفان عريضان يتوسطهما رأس يزينه عينان كأعين الفراعين, أنفة الكبيرة تضفى علية مودة صافية مصحوبة بهيبة الملوك.

"محمود أنا خايفة أوى لو حد شافنا هنا هتبقى مصيبة" جاء صوتها متهدجاً, لم يعرها انتباها, لا تذهبى بخيالك بعيدا يا صغيرتى فصلاة الصباح أمامها معركة الشمس عند الشروق, لا يزال أمامنا الوقت لنتهادى على أنغام النيل ونتبادل أطراف الشجون, "ما ينفعش يا محمود لازم أروح حالاً لو أتأخرت بابا وماما هيقلقوا عليا" , كعادته جلس على الأرض وقدميه فى الماء ينتشى منه كل ما فيه من عراقة الماضى, كان جلوسه دعوة منه لتجلس بجواره, كشفت عن ساقيها فعاد النهر للالتفات ثم أعطته حظاً متفرداً فلامست صفحته الملساء بقدميها, تهب رياح باردة من الغرب من فوق سفوح الجبال الجاثمة على صدر النيل, امتلأ المكان بضوء القمر وزالت عتمة الغروب التى حلت دون أن تشعر بها" هنعمل إيه يا محمود هنفضل نتقابل كدا من ورا البلد كلها الناس لو عرفوا .... قاطعها "القمر والنيل شاهدين على حب طال مداه بعيد عن عيون البشر وذئاب الخلق هفضل معاكى لحد ما نموت".

أمواج النهر تعاكس الشجون متجهة نحو الشمال تبدد العتمة وتنشر الأمل فى كل مكان, بالهدير وصوت الصخب يعالج النيل افتراس البشر كفحل البقر حين يثور, له خوار يشق عباب السماء, فيجلس الجميع مقرفصين, يغويهم بالحب فتتكالب الذكريات لا تأبه بخوار النيل, يترك البشر ديدن الحياة ودين العشاق, ليدوروا فى ساقية الحياة, تصدر صريراً يصم الأذان وتعوى ذئاب الخلق من جديد تتراقص ذيولها على نغمات الصرير الموحشة.

ملامحها المستكينة شحوبها الخلاب الذى يوحى بأنها على استعداد لتقبل كل شئ كان سر غربتها ووحدتها, لكن بجوار محمود تحس بدفء الحياة مغمضة العينين تركت أصابعها تتشابك فى أصابع الملك الغابر, فتسرى فى جسدها قشعريرة الحياة, لطالما عاشت الحب وعانت خداع الحياة, تميل برأسها على كتفة الأيمن تستنشق رائحة عرقه فتهيم فى ملكوت الغرباء عن الحياة, لكم تتمنى أن تموت الأن لتستريح من شقاء دنيا الذئاب , ويكون جسده الخشن أخر ما تلامس فى الحياة.

لامست بيديها وجنتيه وتمتمت بكلمات الحب والعشق, ضمها محمود بذراعه فسارا كالجسد الواحد, لا تراه ولا يراها , ينظران إلى النيل , حيث يقطف وردة من قلبها يهديها إلى نفسه , يرشف نبيذ حبها , يغتنم لحظات قربها منة لعلها تكون الأخيرة فالفتنة فى البلدة بلغت أشدها وإن علم أحد.. ستقع الكارثة , لا شئ يكدر صفوهم الآن هى وحدها بين ذراعه لا شئ يزعجهما , منسجمان مع الليل الأزرق والنيل اللامع تحت السماء الأقرب , يلتفت إليها هى أيضاً من زمان غابر وكأن الشمس تشرق من عينيها , تنثر كلمات الحب يقسم أن يبقى سجين حبها عندما يستمع الى خلجات وترانيم قلبها الخاشع يكون الكون كله منزوياً فى راحتيه , أبعاد الشوق تسرى فى عروقه يحتضنها فيحس بحياة أخرى تدب فى جسده , أنت الوحيدة التى تلقفت قلبى كم أنا محظوظ يكفينى فخراً أنك هنا بجوارى , أريد أن يعلم عالم الذئاب أنى أحبك , يرتعش قلبى بعضلات وجهها المبتسم , هل أطبع قبلة على وجنتيها لعلها تكون الأخيرة , مزجت الحب بالحياة فكانت قوة ثالثة لها الغلبة , خيل له أنه سكير متحطم على شواطئها ,كل نساء وطنه لم يثرن فيه كوامن العشق والحب , أفتزهق روحه تحت جناحها ؟! , ليهمل كل نساء الكون وليخلصها وينزعا معاً ظلمة الكون البغيض وليجدا النور فى سكون الهوى وليتحامى فى أجسام تزهق أرواح الذئاب , لا يعرفها ولكن يعرف كيف يتقلد لواء المعركة مدافعاً عن حبة بكل شرف فقد منحته قلب فارس.

غادرت نسمة الهواء العليلة وصمت النيل والصمت هو أصعب علوم الكلام , الصمت فن مقيت لا يجيد محمود التعامل معه , كلما صمت يتحمل وزر النوايا , صحيح أن الصمت أكثر ثراء لكنة يحمل كل كوامن الشر المطلق, ساد سكون غريب بعث فى قلبه خوفاً من المجهول , هى نائمة على صدره, نظر إليها طالع تفاصيلها , نزلت دموع نبيلة من عينية فسالت على وجنتيها تشق طريقها على صفحة الوجه الأملس, تحصن بها ضمها إلى قلبه رأها بعين مغايرة لتلك التى كان يراها بها, تحجرت الدموع وأنعكس صدى الصمت فى الأجواء, انتابة إحساس عميق بالضعف تمنى لها حياة أخرى عند الرب, دمائها الدافئة خرجت من صدرها لامست جسده لتعلن ساعة انتهاء وقت اللقاء , رصاصة غادرة حملها الهواء الذى كان يظللنا منذ قليل بنسمات العشق الذى اجتمعت فيه كل مواد الحس, أفسحت غصون الأشجار الطريق للرصاصة كأنها تعاهدت مع مطلقها حتى الطبيعة خانت عهدهما ووقف النيل صامتاً لا يحرك ساكناً.

مطلق الرصاصة هناك واقفاً بردائه الصعيدى الفضفاض وبندقيته التى تحرث الوجود وتقتل كل المقدسات, لتعلن أن محمود ارتكب إثماً وألحق بأهله العار عندما أحب لوريا.

ماتت عذراء فى سبيل الحب المقدس.

*الأحداث والكلمات والأسماء من وحى خيالى وليس لها علاقة بالواقع





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة