من المؤكد أن الدكتور محمد البرادعى شخصية محترمة ومرموقه، على المستوى الدولى والوطنى على السواء، فالرجل قد أدى دوره الدولى بنزاهة وشرف يشهد له بهما الجميع، ويؤكد ذلك عدم رضاء أمريكا بعض الشىء وإسرائيل تماما عن عمله، إبان رئاسته لهيئة الطاقة الذرية، كما أنه إلى ذلك ليس باحثا عن مكسب أو منصب هنا أو هناك، فمن الواضح أنه موفق على المستوى الشخصى والعائلى، بإمكانه أن يحيا حياة هادئة وهانئة، على المستوى المادى، فى بيته فى جنوب فرنسا، أو على المستوى المعنوى كمحاضر ومستشار لبعض الهيئات والدول والجامعات، التى بلا شك تحتاج خبرته الوظيفية القانونية الطويلة.
وقد كانت كفائة الرجل ونزاهته على المستوى الدولى هى التى رشحته لجائزة نوبل للسلام، وهكذا اصبح واحد من الشخصيات المصرية المرموقة والمعروفة دوليا ووطنيا، مثل احمد زويل أى أن الرجل لم يصبح شخصية مشهورة وطنيا بفضل جهود محلية معروفة على المستوى البيئى أو الثقافى أو الاقتصادى أو التعليمى وغيرها، كعشرات من العلماء والمفكرين الوطنيين الذين لا ينالون ما يستحقون من تكريم وشهرة بفضل أسباب داخلية ربما نأت عليها فيما بعد.
وفضلا عن ذلك فإن الرجل فى حواراته المطولة والتى أجريت معه فى العديد من وسائل الإعلام، لم يبد معرفة دقيقة وإحصائية بواقع الحال فى مصر على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، ورغم ذلك فقد أبدى تعاطفا عاما مع واقع يشعر ويؤكد أنه واقع مازوم بفعل نظام سياسى شاخ وهرم ولايريد أن يتزحزح من على صدور وأنفاس الناس ولا يعرف معنى لحرية الناس وحقهم فى تداول السلطة وهو ما جذب شلل الفاسدين والمنتفعين من رجال المال الذين يلعبون بالمال والسياسة كاللاعبين بالبيضة والحجر، وهو يعرف أن هذا الواقع المركب يحول دون ماهو معروف فى جميع النظم الديمقراطية من سياسات المحاسبية والشفافية والمسائلة التى تفتح أبواب التغيير والهواء النقى على مصراعيها أمام الناس، ويبدو أنه إلى جانب ذلك التعاطف الواضح وغير المحدود من البرادعى للناس وللفقراء على الخصوص، على معرفة واسعة وعميقة بالنظم السياسية المختلفة، لتعليمه القانونى من ناحية، وأسرته القانونية من ناحية ثانية – كان أبوه نقيبا للمحامين - وعمله محتكا بالهيئات الدولية والنظم السياسية المختلفة فى العالم من ناحية ثالثة.
وهكذا لم يسع الرجل على المستوى الوطنى إلى مغنم شخصى، فمن الواضح أنه أكثر من مستور، كما لم يسع إلى شهرة فمن الواضح ايضا أنه أكثر من مشهور، وكل ما حدث أنه وأمام سعى النظام المستبد إلى تجريف الوطن والتنكيل بكل الشخصيات المرموقة، والتى كان من الممكن أن تلعب دورا واضحا فى تغيير ذلك النظام المازوم، فضلا عن سعية لسد الأبواب أمام التيارات والتنظيمات السياسية، التى كان من الممكن أن تلتف حولها الجماهير، كل هذا لحرث أو بالأحرى حرق الأرض لكى تناسب الوريث القادم، سواء كان الوريث الشرعى، أو الوريث غير الشرعى ممثلا فى عملية توليد قسرى لقيادة عاجزة فاسدة، من رحم قيادة اكثر عجزا وفسادا، ونحن لا نريد هنا أن نتحدث عن شخصيات بعينها، ولكن أنظر مثلا إلى أيمن نور ونعمان جمعة، بوصفها السياسيين الذين تصورا أن بامكانهما خوض معركة انتخابية شريفة ونزيهة أمام النظام، ولم يقبلا بكل بساطة أن يعلنا تنازلهما عن أصواتهما للرئيس، كما لم يقبلا بتلك الهبة الثمينة" نصف مليون جنيه" ثمن المعركة الانتخابية فيأخذانها لترتيب أوضاعهما الخاصة، أو لترتيب أمور تنظيماتهم أن كانت تلك تنظيمات بحق، وهكذا كان جزائهما أنهما لم يعودا يصلحان لا لمعارك سياسية، أو حتى لمجرد دور كومبارس سياسى فى المسرحية الكوميدية التى تجاوز عمرها عمر مسرحية "الزعيم" للنجم عادل امام
ويعرف المهتمين إن أحزابا سياسية ثلاثة فقط كانت تضم أكثر من مليون عضو نشيط، فى مطلع الثمانينات، التجمع حوالى ربع مليون نشط، والناصرى أكثر من مائتى الف والوفد أكثر من نصف مليون، ولكن الحصار والإفقار واليأس من المستقبل والتغيير دفع الناس للخروج من دائرة السياسة إلى دائرة التدين أو إلى دائرة اللامبالاة.
المهم أنه أمام ذلك الهول القادم طرح الناس اسم البرادعى، كاسم مرموق وكبديل محتمل لتحريك الماء الآسن، تماما كما طرح اسم أحمد زويل ، وعمرو موسى، والذى حدث أن الرجل هو الوحيد الذى أبدى استعدادا للتجاوب مع من دعاه، طبعا وضع الرجل شروطا تكاد تكون شروطا تعجيزية لكى يخوض معركة انتخابية.
ونحن هنا لسنا فى معرض مناقشة الشروط التى وضعها البرادعى لكى يخوض انتخابات رئاسية، وأميل إلى من يقول بأنه لو كان ما يطالب به البرادعى ممكنا ماكنا احتجنا للبرادعى من الأساس، كما إننى اختلف مع الأستاذ "صلاح عيسى" الذى دعى البرادعى – فى تهكم لم ارتح إليه - لعمل برنامج انتخابى محدد وواقعى وعدم الوقوف عند شعار "انتخبونا تجدوا مايسركم" ، وهو يعلم – كسياسى مخضرم وقرارى - أن مصر لا تعانى فقر البرامج والوصفات، وإنما تعانى تصلب وانسداد الشرايين المزمن، فإن جزءا أساسيا من قيمة الرجل أنه بلا برنامج سياسى واجتماعى يختلف الناس حولة، فقيمته الأساسية فى أنه مجرد رمز لعمل نظام دستورى يفتح الباب أمام التداول الحر والسلمى للسلطة.
وعندما يحدث ذلك التداول بما يتبعه من سياسات للمحاسبة والشفافية والتغيير، ستتحسن أحوال الناس الفقراء ويرتفعون فوق خط الفقر وسينال المجرمون والفاسدون واللاعبون بأقوات الناس، والمتاجرين بمصير الشعب وأمواله عقابهم المناسب، وسينصلح حال التعليم والجامعة والصحافة، وسينفتح باب الأمل أمام المجتهدين والعاملين من الشباب.
من أجل كل هذا أؤيد البرادعى فى دعوته، قبل أن تتحول بلادنا إلى خرابه ينعق فيها ألبوم