فى بداياتنا الأولى، فى النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضى، كان شعراء السبعينيات فرحين بالمجاز كشكل حداثى لبناء الصورة الشعرية، فراحوا يباعدون، ما شاءوا، بين المشبه والمشبه به إنصاتًا لتعليمات نقاد الحداثة وشعراء جماعة "شعر"، فأصبحنا نقرأ صورًا وتراكيب لغوية عجيبة مثل "حليب الوقت" و"لبن النهار".. الخ.. وبالطبع راح معظمنا من شعراء الثمانينيات يقلدون هذه الألاعيب، حتى إننا كنا نظن أن الأشعر هو من يفعل ذلك!
وقتها كان أصدقاؤنا من شعراء العامية وَلِعِينَ بهذا اللعب، فراحوا ينقلونه حرفيًّا: مجدى الجابرى ومسعود شومان ومحمد الحسينى وخالد عبد المنعم- رحمه اللهـ وشحاتة العريان، وبدرجة أقل محمود الحلوانى، وفى النهاية يأتى طاهر البرنبالى كشاعر ملتزم يحتفى بالمضمون ثم يبحث له عن شكل وصور تناسبه.. فكان خالد عبد المنعم، مثلاً، يبدأ إحدى قصائده بقوله: "البحر واقف تحت جلدى بيعيط!"، وكان مسعود شومان يكتب قصائد طويلة، فيها مزاوجة بين العامية والفصحى تتخللها شتائم مثل "يا أبناء الكلب"، ويختار لها عناوين غريبة، مثل "ملح المزيكا سقط.. رصفان بكون"!، هذه القصائد كانت تشبه كثيرًا القصائد الصادمة التى كان ـ وما يزال- يكتبها الشاعر رفعت سلام، أحد شعراء السبعينيات.
هذه الحكاية جعلتنى أنتبه- مبكِّرًاـ إلى أن حركة شعر العامية المصرية تقتفى حركة الشعر الفصيح، الحافر على الحافر، لكنها دائماً تأتى متأخرة قليلاً أو كثيرًا، حسب الظرف السياسى والاجتماعى والفنى الحاكم، وحسب موهبة الشعراء.
مثلاً.. كان الشعر العامى فى أغلبه قبل جيل الستينيات: الأبنودى وصلاح جاهين ومجدى نجيب وفؤاد قاعود وغيرهم، يُكتب على شكل القالب الشعرى الكلاسيكى ذى الأشطُر المتماثلة المتساوية فى عدد التفعيلات، ثم انتقل على يد هذا الجيل إلى الشكل الحر بحمولته الفنية التى تتكئ على الواقعية الاشتراكية، بعد سنوات من نضال شعراء الفصحى، ونقادهم، للدفاع عن هذا الشكل، بدءًا من باكثير ولويس عوض.. ثم صلاح عبد الصبور وحجازى ود.عبد القادر القط ورجاء النقاش.. الخ. وعندما بدأت حركة أصدقائى الذين أشرت إليهم للتحول إلى ما عرف بـ"قصيدة الحداثة" فى منتصف الثمانينيات، كان شعراء السبعينيات قد قطعوا شوطًا فى هذا التحول الذى انبنى- كما قلت- على منجز جماعة شعر بلبنان فى الستينيات. أى أن شعراء الفصحى كانوا يهجرون الواقعية حينما شرع شعراء العامية فى دخولها!
كثيرًا ما سألت نفسى إن كان هذا طبيعيًّا، خاصة أن شعر العامية مؤهل أكثر لإحداث التغيير، لأنه ـ بطبيعته غير ملزم بالحمولة الثقافية والفنية والتاريخية لشعر الفصحى، وهو أسهل، نظريًّا ربما، فى ولوج مناطق غائرة وحميمة بحكم قدرته على التعبير عما يحدث فى الشارع والحارة.. الخ، ويكفى أن نعرف أن نسبة غير قليلة من شعراء العامية لا يعرفون العروض الشعرى بشكل كافٍ، فنجد الواحد منهم ينتقل من بحرٍ إلى بحرٍ دونما سبب، يجره الصوت وراءه فينتقل أكثر من مرة، ثم إن بعضهم فى مرات كثيرة يكسرون الإيقاع فى سياق غنائى، ويقحمون الغنائيات فى سياق نثرى، لا لشىء إلا لجهل بمقتضيات الإيقاع التقليدى.
هذه الملاحقة الفنية قد تكون مفهومة فى سياق أن الأنواع الأدبية كلها تستفيد من بعضها بعضًا، وأنه ليس مهمًّا من جاء أولاً.. إلخ، لكننى مازلت عاجزًا عن فهم السبب الذى من أجله ذهبت قصيدة العامية إلى ما يسمونه "قصيدة نثر العامية"، تلك التى بدأت بديوان مجدى الجابرى "عيل بيصطاد الحواديت"، ففلسفة الكتابة العامية فى جوهرها لا تتناسب فى ظنى مع فلسفة "قصيدة النثر"، فالأولى خطابية شفاهية تستخدم لغة الناس وتتوجه إلى بسطائهم، وتهتم بالعام والمشترك وتنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية، دون أن يقلل هذا من شأنها، والثانية كتابية تقوم على موروث ثقافى وعلى تعمد الانتقال بالشعر من كونه خطابًا إعلاميًّا إلى الكتابة الذاتية التى تهتم بما يدور داخل النفس لا خارجها.
أنا أفهم تمامًا أن اللغة مجرد وعاء ـ هذا ما سيقولونه فى نقض فكرتى وهدمهاـ وأفهم أن ما نقوله بالفصحى يمكن جدًّا قوله بالعامية، لكننى مازلت لا أفهم أن تكون العامية نثرية تهرب إلى الداخل وتهتم بالهامشى وغير ذى القيمة والفردى، لأن هذا عكس رسالتها التى وجدت من أجلها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة