دائما أتابع أخبار كبار الفنانين فى أمريكا وأوروبا، وأرى أن اهتمامهم العميق بيوم اليتيم أمر حضارى وإنسانى، وينساق التابعين من العرب المسلمين وغير المسلمين من المعجبين بهم فى تقليدهم تقليدا أعمى، وأعنى بهذا تخصيص يوم أطلق عليه الغربيون يوم اليتيم العالمى، وهذا اهتمام محمود؛ أن نهتم برعاية اليتامى ولو كان تقليدا للغرب.
ولكن الاهتمام باليتيم ليس شيئا ابتكره الغرب، بل إن القرآن الكريم قد سبق العالم كله منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام فى الحرص على تذكير المسلمين دائما بالاهتمام بهذه الفئة الضعيفة من الناس، فقد فقدوا السند المادى والمعنوى، وحرص القرآن فى العديد من آياته على ربط الاهتمام باليتامى بالإحسان إليهم وتحقيق القسط والعدل فيهم، حتى إن الله تبارك وتعالى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم تشريع إباحة تعدد الزوجات من منطلق الحرص على اليتامى وتحقيق العدل فيهم قال تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) - النساء 3، وقد جعل الله عز وجل الخوف من ظلم اليتامى، وابتغاء تحقيق العدل فيهم هو الشرط الوحيد لإباحة تعدد الزوجات.
واليتيم لغة هو من مات أبوه لا أمه، وفقد الأب معناه فقد الأمان، وفى هذا الظرف العصيب على الأبناء والزوجة الذين فقدوا حصنهم وسندهم بفقد عائلهم؛ يأمر الله عز وجل عباده من رجال الأمة الصالحين بالتقرب إليه بالإحسان إلى اليتامى بالزواج من أمهاتهم، فتجد الأرملة فيمن يتقدم للزواج بها تقربا إلى الله؛ السند على تحمل مرارة فقد زوجها ووالد أبنائها، فيساعدها على تربية أبنائها ورعايتهم، ويجد هؤلاء اليتامى من يرشدهم ويقوّمهم بالحب والحزم، طامعا فى أن يكون ممن أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الشريف: (أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة) وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، وأغلب الظن أن مثل هذه الأرملة المفجوعة فى فقد زوجها وراعيها، لن تشعر بغصة أو مرارة، حتى إن كان الرجل الذى تقدم إليها متزوجا بامرأة أخرى أو ثالثة أو رابعة لهن كلهن نفس ظروفها، إنها على الأرجح ستشعر بالعرفان تجاه هذا الرجل الذى عدد زوجاته تقربا إلى الله عز وجل وخوفا من ظلم اليتامى، وحبا فى تحقيق العدل والقسط إليهم، كى يشبوا مثل غيرهم من أقرانهم ممن لم يتجرعوا مرارة اليتم وفقد الأب والسند.
إننا إن فهمنا لماذا شرع التعدد؛ سنجد أن الله عز وجل قد شرعه ليس (والعياذ بالله) حبا للرجل ومحاباة أو إعفافا له، ولا لكى ينجب أبناء لم تنجبهم له زوجته الأولى؛ مع ما يحمل ذلك فى طياته من عدم الرضا عما قدره الله لبعض عباده من عدم الإنجاب؛ إن الشرط الوحيد الذى ذكرته الآية الكريمة لإباحة التعدد هو حماية هذه الفئة الضعيفة من يتامى المجتمع من غوائل الدهر ونوائبه، وعدم إنكار حقهم فى حياة سوية، فيشبوا أسوياء لا تسكن نفوسهم المرارة، إذا ما قورنت أحوالهم بغيرهم.
وتطبيق التعدد بهذه الصورة الراقية يشيع الحب والمودة فى المجتمع الإسلامى، فلا نرى أيتاما يكبرون بلا أب يرعاهم ويرشدهم، ولا نجد أرملة تعانى بمفردها تربية أبنائها دون معين، وقد سبقنا إلى تطبيق هذا المبدأ الإنسانى العظيم رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
قد لا يعجب الكثيرين هذا الربط بين تعدد الزوجات واليتامى، ولكن الآية واضحة لا لبس فيها، والفهم الخاطئ لهذه الآية الكريمة هو الذى أدى إلى التجاوز فى تطبيق هذا التشريع الإلهى الرائع، الذى يهدف إلى حماية اليتامى من الظلم، ولو طـُبق تعدد الزوجات من هذا المنظور العادل، لما هُـدم الكثير من البيوت على رؤوس أصحابها، نتيجة الفهم الخاطئ لمبدأ التعدد. والله من وراء القصد.
