حالة من تعطير الوجدان، وإضفاء الطزاجة على الفكر والعقل، شعرت بأن المخرج داوود عبد السيد يسعى لتحقيقهما لدى مشاهدتى لأحدث أفلامه "رسائل البحر"، فمن بين خضم هائل من أفلام تخاطب المجتمع وتناقش مشاكله بفجاجة مهينة، خرج عبد السيد بهذا الفيلم ليقول للجميع إنه مازالت هناك سينما حقيقية..
لوحات سينمائية تبحث عمن يبحر فى أسرارها، ويستمتع بتفاصيلها، خاصة وأنت أمام قصة تستمد واقعيتها من ذكريات شخصياتها - مثلما عودنا عبد السيد مرارا فى أفلامه وأهمها "أرض الخوف" للعبقرى الراحل أحمد زكى- فقد سحبنا المخرج من أيدينا ليرينا كيف يمكن أن يتنازل المرء عن ماضيه مهما كانت عظمته ليبحث عن لحظة من السعادة، لحظة من الحب الحقيقى، مهما كانت حقيقة من يحب، وهذا هو حال الدكتور يحيى – آسر ياسين- الذى توفى والده فاضطر للعيش فى شقته القديمة بالإسكندرية، والتى شهدت أيام طفولته، ويمر بعدة أزمات منها ما يتعلق بعدم مقدرته على التواصل مع الآخرين بشكل جيد، نظراً لأنه يعانى من التلعثم والثأثأة فى الكلام، ورغم أنه تخرج فى كلية الطب إلا أنه لا يمارس مهنته لسخرية المرضى وزملائه منه، ويضطر إلى العمل صياداً ليتغلب على ظروفه المادية الصعبة..
مع عودة "يحيى" إلى الإسكندرية يعود إلى قصة حبه القديمة مع سامية أسعد، التى تؤدى دور "كارلا"، إلا أن قصة الحب التى تم بترها قبل سنوات لا يمكن أن تكتمل من جديد، وتندمج كارلا فى قصة حب مثلية مع فتاة أخرى.. فى الوقت ذاته نرى ملامح قصة حب غير تقليدية بين كل من يحيى ونورا -بسمة- فرغم اعتقاده أنها فتاة ليل إلا أنه يقع فى غرامها وهى كذلك، دون أن تحاول توضيح حقيقة أمرها له، وفى الوقت ذاته نرى محاولات يحيى طول الفيلم وبشكل متواز لفك شفرة رسالة وجدها فى البحر، دون أن يصل فى النهاية إلى حل.
الحقيقة أن داوود عبد السيد رسم شخصيات ذات خصوصية شديدة جدا فيحيى ذلك الشاب الذى نبذه المجتمع بسبب تلعثمه وثأثأته فى الكلام رغم مركزه المرموق، دفعه للعمل كصياد ليقتات، ونسى كونه طبيبا ولم يتعلق بسنواته الماضية، بل يحاول طول الوقت أن يتعلق بحاضره المتمثل فى قصة حبه لنورا بعد اكتشاف علاقة الشذوذ الجنسى بحبيبته السابقة "كارلا"، وهو فى الوقت ذاته يسمح لنفسه أن يحب نورا وهو يعلم أنها عاهرة، ويتأكد من ذلك حينما يراها بصحبة زوجها فيعتقد أنه أحد زبائنها.. نورا نفسها تسمح لنفسها بإقامة علاقة غير شرعية مع يحيى لأنها ترى أن زوجها يعاملها كعاهرة.. زواجهما سرى بحكم كونها الزوجة الثانية، وعلاقتهما لا تتجاوز مساحة المستطيل الوثير الذى ينامان عليه معا، لذلك ترفض حملها منه وتجهض نفسها وتقع فى حب يحيى وهى توهمه طوال الوقت بأنها عاهرة..
كارلا أيضا تبحث عن حاضر جديد بعيدا عن علاقات الحب غير المكتملة مع الرجال، وأولهم يحيى الذى كان أكثر علاقاتها العاطفية نضجا، فلا تجد هذا الحاضر سوى فى علاقتها المثلية بفتاة مثلها..
قابيل –محمد لطفى- ذلك البودى جارد الذى لا يضرب أحدا يحاول أن يتشبث بالواقع من ذكرياته وذاكرته، خاصة حينما يجد نفسه مضطرا لإجراء جراحة لإزالة ورم بالمخ قد يؤدى لفقدان ذاكرته، وهو ما يجعله يتردد ألف مرة قبل الموافقة على العملية، ولكنه يقبل فى النهاية حينما يعلم أن حبيبته بيسة-مى كساب- ستروى له كل ذكرياته بعد أن يحكيها لها.
أحداث الفيلم رغم ما بها من تطويل يدفع إلى الملل أحيانا، إلا أنك فى النهاية تجد نفسك أمام شخصيات تتعاطف معها بسبب كم الحزن والألم الذى يرصدهما عبد السيد فى عيون الناس، وهى السمة المميزة فى أفلامه، وإذا كنا قد تحدثنا عن الشخصيات كثيرا فذلك بسبب أهمية الشخصيات وحواراتها لدى هذا المخرج، خاصة وأنه يعشق كتابة أفلامه بنفسه سعيا منه لتحقيق أهدافه الدرامية، خاصة وأنه أراد مناقشة العديد من الأفكار مثل مفاهيم العهر.. الغواية.. ارتباط السلطة بالمال.. أهمية الذكريات بالنسبة لأصحابها، ولعل مفهوم الغواية هذا هو ما تناوله فى علاقة كارلا بصديقتها وحرصه على إبراز تفاصيلها وتطورها فى مشاهد متعاقبة دون أى إسفاف، بل إنها كانت أكثر المشاهد انسيابية فى الأداء وفلسفية فى الحوار.
أما الديكورات والأماكن فرغم ما اشتهر به داوود عبد السيد من حرص على التصوير فى الاستوديوهات إيمانا منه بقدرة الديكور على استكمال الواقع، إلا أنه فى هذا الفيلم خرج إلى الطبيعة بشكل أقوى وجعل شخصياته تصطدم بقوى الطبيعة وتتحداها رغم صعوبة التحدى، ولعل هذا هو ما جعل يحيى يقف بمفرده بمواجهة النوة حتى سقط مغشيا عليه، وكذلك قابيل الذى جلس فى عز النوة يرفض سخريات القدر منه.
أما أكثر ما تميز به الفيلم فكانت الكادرات التصويرية التى اختارها مدير التصوير أنسى أبو سيف، والتى كانت عبارة عن لوحات تشكيلية حقيقية وأكثرها روعة هو كادر النهاية من الزاوية الرأسية، والذى يجمع يحيى ونورا فى قارب بالبحر ومن حولهما الأسماك نافقة، والتى توجه عدة رسائل أهمها أن الذكريات لا يمكن أن تموت كلما كان الواقع حاضرا.
لا يمكن أن نتحدث عن هذا الفيلم الأكثر رقيا دون أن نشير إلى أداء آسر ياسين الذى أثبت قدرته على تجسيد شخصية كان مرشحا لها الراحل أحمد زكى، فقد لعب دور المتلعثم فى الكلام ببراعة فائقة، واختار الأوقات المناسبة فعلا لهذا التلعثم الذى كان يتلاشى فى أوقات سعادته، بينما سعت بسمة لدور جديد تماما عليها وأبدعت فيه فعلا رغم جرأتها الشديدة، وكعادته فى أدواره الأخيرة تألق الفنان محمد لطفى فى دور البودى جارد رغم أنه ليس جديدا عليه ولكنه بالفعل يمثل شريحة موجودة فى المجتمع المصرى.
* ناقد وكاتب صحفى بالأهرام
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة