كان حوارا ممتعا ومفيدا ذلك الذى دار فى الأسبوعين الأخيرين بين الإعلامى الكبير يسرى فودة والصحفى النقابى المتميز يحيى قلاش حول حبس الصحفيين فى قضايا الرأى والتعبير، وقد أثار هذا الحوار حالة من الجدل الذى أظن أنه سيصب فى النهاية فى مصلحة حرية التعبير، وقد كان من رأى فودة أنه لا ينبغى أبدا تمييز الصحفيين عن غيرهم ومنع حبسهم فى كل قضايا الرأى بكل تصنيفاتها، باعتبار أن هذا التمييز سيخل بالعدالة التشريعية التى يبتغيها المشرع ويتطلبها الدستور، وقد اتفق بعضهم مع رأى فودة وكان سندهم أن التمييز يؤدى إلى خلل والخلل سيؤدى إلى إخلال ثم إن هذا الإخلال سيجعل حظوظ المواطنين أمام المشرع متفاوتة وقد حذّر أصحاب هذا الرأى- عبر مقالات ومناشدات إعلامية- من مغبة إصدار تشريع يمنع حبس الصحفيين فى قضايا النشر، وذلك بزعم عدم دستورية هذا القانون، وكانت حجتهم فى ذلك هى أنه لا يستقيم أبداً أن يقوم المشرع بمنح الصحفيين «سماحاً تشريعياً» يمنع حبسهم فى كل الجرائم المتعلقة بالنشر فى الوقت الذى يحرم فيه باقى المواطنين من هذا «السماح التشريعى»، بما يعنى أن المشرع أوجد تفرقة بين المواطنين دون أن تكون هناك ضرورة دستورية ملجئة لذلك.
ونحن نرى أن ادعاء مخالفة هذا التشريع المطلوب للدستور- رغم خطورته- غير صحيح، فمن ناحية لم يقل أحد إن التشريع المطلوب صدوره سيمنع حبس الصحفيين وحدهم دون غيرهم، فالقاعدة التشريعية هى دائماً قاعدة عامة مجردة لا تسعى إلى وضع الصحفيين فى برج مشيد أو على كرسى ذهبى فى الوقت الذى تضع فيه آحاد المواطنين فى سجن مقيد، فكل المواطنين أمام القانون سواء، هذا هو المفروض والتشريع المرجو إصداره يمنع الحبس فى جرائم النشر أياً كان مرتكب هذه الجرائم صحفياً أو غير صحفى.
ومن ناحية أخرى لم يقل أحد إن المطلوب هو منع توقيع العقاب بصفة مطلقة، إذ إن كل المطالب انصبت حول «العقوبة» وطبيعتها، فإذا لم يكن بُد من توقيع عقاب ففى الغرامات مندوحة للمشرع، ويعلم كل دارس للقانون، كما يعلم كل أستاذ جامعى قام بكل «سرور» و«بآمال» مستقبلية وبكلام «مفيد» يضوى مثل الـ«شهاب» بتدريس دستورية العقوبة وشرعيتها- يعلم أن المشرع يملك سلطة تقديرية فى تحديد طبيعة ونوعية العقوبة، وكل ماله أنه يفاضل بين بدائل متعددة مرجحاً من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التى قصد إلى حمايتها، ويعلم رجال القانون وأعضاء المجلس التشريعى أنه كلما كان الجزاء الجنائى بغيضاً أو عتياً أو غير متناسب مع الأفعال التى أثمها المشرع، كان غير دستورى، ولا شك أنه فى ظل زمن نطالب فيه بإطلاق حرية التعبير فإنه ينبغى عدم إحاطة هذه الحرية بقيود متعددة وإلا كان الكلام حول هذه الحرية لغواً وسفسطة، أما الاقتراحات حول العقوبات فكثيرة، ولا أظن أن أحداً يختلف عليها، فيجوز أن تصل عقوبة الغرامة المالية إلى آلاف الجنيهات، فطلبة القانون فى كلياتهم يتعلمون ليل نهار أن القانون الجنائى ينظم العلائق بين الناس بقصد ضبطها، إلا أنه ينفرد دون القوانين باتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها، بما يعنى أن الجزاء على الأفعال لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيداً من الناحية الاجتماعية، ولا شك أن التشجيع على إطلاق حرية التعبير فى هذا الزمن يحظى بالأولوية على غيره، كما أن النظم الحاكمة فى البلاد الحضارية تستمد قوتها دائما من قوة حرية التعبير التى يمتلكها أفرادها، ليس هذا فحسب ولكن كلما كانت حرية التعبير قادرة على المشاركة بشكل فاعل فى نقل السلطة من جيل إلى جيل ومن رئيس إلى رئيس بشكل ديمقراطى يعبر عن رغبة الشعب، فإن هذا لهو أكبر دليل على حضارية الدولة ورقيها وتقدمها الإنسانى والسياسى، أما إذا سعى النظام السياسى فى أى دولة إلى حماية نفسه بترسانة من القوانين والتشريعات، ووضع ستارا ضخما من التعتيم من خلال إضعاف حرية التعبير، من خلال قوانين هدفها تقييد حرية التعبير، فإن هذا لهو أكبر دليل على أن هذه الدولة مازالت تعيش بعقلية القرون الوسطى.. ومصر التى تحمل فى باطنها مخزونا حضاريا لا يتوافر لدولة أخرى أحق من غيرها فى العالم كله بأن تكون قاطرة لدول الشرق فى حماية حرية التعبير مهما بلغت قسوة هذه الحرية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة