لم يعد ممكناً ولا مقبولاً ولا معقولاً أن تستمر الممارسات الحالية فى الجامعة المصرية بعد أن بلغت درجة من التردى لا ينكرها إلا أرمد العينين، وبعد أن أطاحت بجامعاتنا الإحصاءات والتقارير العلمية والعالمية إلى خارج السياق الأكاديمى العالمى فى عالم يقيس التسابق العلمى بالفيمتوثانية، وبعد أن انتابتها حالة ركود ثقيلة أطبقت عليها وسلبتها مشاعر الحياة المفكرة، وجعلتها حبيسة عالم ضيق فى الزمان والمكان، وقطعت صلتها بماضى الجامعة المجيد الزاهر فلم يعد لها منه غير صورة ناحلة ممسوخة، وحالت بينها وبين التطلع إلى مستقبل تنطلق فيه مع غيرها من المراكز العلمية الناشئة أو التى أفاقت من غشيتها وانطلقت فى نهضة ظلت تترامى أنباؤها، فراحت جامعاتنا تستقبل نتائج السباق العلمى الجاد كما يستقبل النائم خيالات عالم سحرى فما يزيده ذلك إلا إغراقا فى السبات واستسلاما للرقاد.
إن كل الخطابات الرسمية للدولة عمرت بتأكيدها على الأخذ بالعلم والتكنولوجيا سبيلاً لتطوير المجتمع وحل مشكلاته، كما أن خطابات السيد الرئيس بتكليف الوزارات واضحة ومحددة فى أن العلم هو طريق المستقبل، لكن الواقع المعاش مخالف تماماً لكل ذلك، وكيف يرضى وطنى مخلص بحال الجامعة المصرية هذه بعد أن أخلدت إلى الراحة وركنت إلى الدعة، ونفضت يديها من العلم والعلماء، وكأن ما نزل بالجامعة بفعل السياسة والإدارة قد استغرق قواها، فقنعت بالتخلى عما خلقت له، ورضيت بالسكينة فى عزلتها لا تكاد تمد بصرها إلى ما وراءها.
إن مصر فى حاجة إلى جامعة تصنع رواجاً فكرياً يؤمن بحرية التفكير والتعبير، وترفع الأهداف الوطنية العليا، وترسخ قواعد المجتمع المدنى الحديث، وتقود البحث العلمى النشط فى قفزات واسعة تسد بها هوة التخلف والحاجة والاستيراد، وتؤدى دورها الوطنى البارز فى ترسيخ قيم العدالة والحرية والديمقراطية، وتنطلق من الأهداف الإستراتيجية العليا للمجتمع فى تحقيق الرقى، مصر فى حاجة إلى جامعة تجسد نتائجها السياسات الطموحة للدولة، جامعة تقدم البرامج المبتكرة لتنفيذ مشروعات حل مشكلات الجماهير وتحقيق النهضة، ولا يكون ذلك بغير استقلال الجامعة وحفظ كرامة الأساتذة.
لم يعد معقولاً ولا مقبولاً من الجامعة أن تنبت شبحاً ثقيلاً مخيفاً يغلق أبواب المعرفة ويكره أنوار العلم ويبغض الحرية، وقد بلغ الأداء العلمى أقصى ركاكته، وأصابت الكارثة فنون التعليم والبحث العلمى والابتكار فشملها العجز والضعف، وخبت شعلة التفكير والنبوغ بعد أن فقد العلماء الطموح والأمل، وتقلصت مساحة العلم فى حياة أهله وطلابه ، وانصرفت الإدارة الجامعية عن الاكتراث الجاد بالعلم النافع.
نريد جامعة جديدة تحقق طموح الوطن فى بناء مستقبل مشرق ولا تتضاد مع حقائق الواقع والعلم، نريد جامعة حرة مستقلة ترفل فى الديمقراطية الذى يعوقها الآن أن تشغل كل المواقع الإدارية الجامعية بالتعيين مجهول الأسس والمعايير، والتى هى دائما بعيدة عن المعايير الأكاديمية، مما دفع الجامعة المصرية إلى التقهقر عشرات السنين إلى الوراء، وأتاح للأصابع الخفية أن تعبث فى أحشاء الجامعة، حتى إن الواقع العملى يفضح كيف انحطت الحياة الجامعية دركاً كل يوم، وقد كسد العلم، وبارت القيم والتقاليد الجامعية، وعجز الأساتذة عن العمل الجاد، وشاعت نظرة التطلع المقيت، فتصدعت الأبراج العاجية وتهاوت أركانها، حتى انعقد لسانها الناطق، وباتت أحوالها بادية للعيان، تكسوها أمارات الشيخوخة والترهل مما لا يخفى على الناظرين.
نريد جامعة لا تتعطل فيها اللوائح والقوانين، ولا تدار بطريقة الإقطاعيات الخاصة، ولا يكون قادتها بلا دور أو هيبة، ولا تتعطل فيها كل الأنشطة الطلابية، ولا يحرم فيها الأساتذة من نواديهم الحرة، ولا تحبس فيها الحريات الأكاديمية، ولا تتخلى عن دورها الواجب والمأمول طوعا أو كرها، ولا تنزوى فيها المجالس الجامعية وتصير صدى لصوت الرجل الواحد القاعد على خزائن الأرض، ولا ينصرف فيها الأساتذة إلى غير عملهم، ولا تكون فيها الأقسام العلمية جزراً منعزلة تعيش فى عزلة شديدة تفرضها حقائق الإدارة والجغرافيا والاقتصاد ولا تربطها أدنى صلة بالمراكز العلمية فى الداخل والخارج إلا فيما ندر، نريد جامعة تحفظ كرامة الأستاذ الجامعى ولا ترهبه بالتحقيقات الموجهة والاتهامات الملفقة والإيذاء المتعمد الذى بلغ حد الحرمان من الحقوق بطشاً وكيداً، نريدها جامعة يستمد فيها رجالها مكانتهم من عملهم المميز وإبداعهم العالى وليس لعلاقتهم بجهاز أو صلتهم بشخص أو عضويتهم فى لجنة حزبية.
لم يعد ممكناً أن تحرم الجامعة كل الأنشطة والممارسات الواجبة لتنشئة الشباب فى حين تظل الساحة خالية تماماً أمام أى تنظيم غير شرعى وكل صاحب هوى للعبث بالشباب، ولم يعد مقبولاً النظر إلى الوظائف القيادية الجامعية على أنها مكافآت نهاية خدمة لمن أبلوا بلاءً حسناً فى مهام أخرى، ولم يعد مسموحاً به هذا الفساد العلمى والتعليمى فى التدريس والكتب والامتحانات، بل وصل الأمر إلى حد تزوير النتائج، كما أن عمليات الترقيع القانونى والوعود البراقة صارت عبثاً متعمداً بمستقبل الأمة لن تغفره لنا الأجيال القادمة.
نحن فى حاجة إلى بناء جامعى جديد تماماً يقوم على أفضل ما وصلت إليه الجامعات الكبرى علمياً، ونحن قادرون على هذا تماماً إذا خلصت النوايا، ولدينا كل ما يلزم لبداية ذلك، ولكن ينقصنا قرار سياسى بتحقيق ذلك، ولذا فإننى أدعو إلى مؤتمر قومى للجامعات برعاية السيد رئيس الجمهورية مباشرة بهدف وضع الأسس العملية لتحقيق استراتيجية الدولة فى التحديث، مثلما فعلت جمهورية الهند بقيادة نهرو فانطلقت الجامعات لتحقق كل تقدم نسمع عنه لديهم، ولا نريد لهذا المؤتمر أن يكون إعلامياً توضع توصياته وقراراته النهائية من قبل أن ينعقد كما حدث سابقاً، بل نريده مؤتمراً حقيقياً يجتمع تحت هدف واحد فقط، على أن تلزم كل الأقسام العلمية فى الجامعات بوضع تصوراتها لتحقيق الهدف، وساعتها سيكون الإصلاح الجامعى الشامل بديلاً لمشروعات التطوير الهابطة من أعلى والتى كتبها الأصدقاء على عجل فى فنادق الخمس نجوم والمنتجعات السياحية، وأيضاً ساعتها سيكون الجامعيون شركاء حقيقيين فى بناء المستقبل العظيم لوطنهم، وبعد تصعيد اقتراحات الأقسام والكليات تشترك مع الجامعات كل التخصصات العامة فى الدولة، لينتهوا جميعاً إلى وضع استراتيجية النهضة موضع التنفيذ.
نطالب بمؤتمر قومى للجامعات ـ ليس على طريقة المؤتمرات الملاكى ـ للخروج بالجامعة المصرية من وهدتها، فلم يعد وقت للضياع، كما أن المستفيد فقط من الأوضاع الحالية هم خفافيش الظلام، والرجال الجوف، وبائعو أوهام التطوير باليورو والدولار، ومن لا يريدون بمصر خيراً.
أستاذ بجامعة الإسكندرية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة