متى يكشف الكاتب عن مصادره، عن التجارب والوقائع فى حياته، تلك التى تكمن فى الظل طويلاً، ثم تطفو فجأة لتكون قصيدة، أو واقعة شعرية فى قصيدة؟!.. متى يضع أمام القارئ وقائعه، ليرى الفرق بين الواقعة كما وقعت، والواقعة وقد أصبحت فى قفاز المجاز.
بمعنى كيف يضع أمام القارئ نافذة يتلصص منها على تحول وقائع من السيرة الذاتية إلى عمل إبداعى، كيف تفعل المخيلة أفعالها السّرية، وما هى الطرائق التى تسلكها وهى تفعل ذلك؟!
المخيلة، فيما أرى، تقوم بعمل المايسترو إذ تقود أوركسترا من عازفيها الثلاثة: الذاكرة، والوعى، واللغة فى أداء هذه المهمة، مهمة التحريف أو الانحراف بالواقعة من العارض إلى الخالد، من المألوف إلى المدهش، من الخلو من المعنى إلى المشحون بالمعنى.
تبدأ الذاكرة بتهيئة الوقائع، فهى تقوم بتقديم وتأخير وقائع بعينها، فيما يشبه عمل العدسة فى حالة الزووم إن أو الزوم أوت، أى إبدالها طرائقها ومنطقها فى انتشال وقائع وترك أخرى فى السديم الغامض للنسيان. ثم تقوم، فى حالة الذاكرة البصرية، بخلع هذه الوقائع من زمنها الخاص، ومن ارتباطاتها بوقائع أخرى كانت فى سياقها فتخلعها من المعنى، ولا يبقى منها بعد هذه الحذوفات سوى مشاهد كالإيقونات، وهى لا تكتفى بذلك بل تحرف وقائع مؤلمة عبر إضافة الوهم أيضًا، ربما بآلية تفادى الألم الفرويدى، أذكر المرات التى كنت أسرح فيها لأعيد تشكيل ما حدث بإضافة ردود أفعال لى، لم تحدث، لكنها تبقى فى الذاكرة أكثر حياة مما حدث.
فى الذاكرة وقائع سمعتُ بها، أو قرأتها، أو كانت لغيرى، وتخيلتُ، أو وددتُ أن أكون بطلها، وأصبحتُ كذلك.
تهيّئ الذاكرة إذًا سيلاً من الوقائع يسبح فى تيار الوعي، وعلى مرمى إطلالة من تيار اللاوعى، تروح وتجىء، كالهامة، طالبة ثأرها بالكتابة!، تلتقط المخيلة واحدة أو أكثر لخلق واقعة شعرية جديدة، هى هى وليست هى فى آن، مطلقة الوعى فى طلاقته أن يسبغ عليها من المعنى ما لم يكن لها أبدًا!!
وفى الوقت نفسه تبدأ مناورات اللغة عبر المخيلة والوعى، فى تشكيل الواقعة، مستخدمة فنون المجاز المختلفة، مع رؤية الكاتب الجمالية، ومع موقفه من الآخر والعالم.
هذه قصيدة "بلاك أند وايت" من ديوان سيرة ذاتية لملاك تحاول التدليل على حدوث ما لم يحدث!!
بلاك آند وايت
رأيت التروللى باص مقلوبًا على ظهره،
وعجلاته تدور فى الهواء.
رأيته فى الكيت كات،
مثل صرصار من المعدن والزجاج بطول عشرة أمتار.
رأيت أقسام البوليس وهى تشتعل،
والجنود وهم يخلعون ستراتهم ويهربون.
رأيت الذين أضرموا النار فى الكازينو،
والحفاة وهم يركضون بالكراسى والطاولات،
وبصناديق كاملة من البلاك آند وايت!!.
ورأيتهم مرة أخرى على الهواء فى بغداد،
تتعقبهم الكاميرا
وتحميهم الدبابات!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة