ظهور البرادعى لن يغير شيئا فى الواقع السياسى المصرى، سواء انضم إلى حزب ورشح نفسه للرئاسة من خلاله، أو ناضل وقاتل من أجل تعديل الدستور بما يمكنه من طرح اسمه وفرض وجوده كمرشح مستقل، فالبرادعى وحده لا يكفى.. ومصر ليس فيها أحزاب.. مصر فيها فقط أهلى وزمالك.. والمصريون غير مهتمين بالسياسة، لأنهم يشعرون بأنهم لا يؤثرون فيها، أو فى مجرياتها، وأن الحكومة لا تهتم بآرائهم، ولا تحاول استطلاعها للاسترشاد بها فى اتخاذ قراراتها.
والمصريون يحجمون عن المشاركة فى الانتخابات لأنهم يعلمون نتائجها مسبقا..وهم يعزفون عن الترشح لها، لأنهم لم يتربوا سياسيا، ولا يعتقدون بينهم وبين أنفسهم أن لدينا ديمقراطية حقيقية .. والإحصائيات تؤكد أن 2% فقط من الشباب هم الذين يهتمون بالمشاركة السياسية والانضمام للأحزاب، فيما يشكك المحللون السياسيون فى دوافع هرولة الكثيرين للانضمام للحزب الوطنى الحاكم، ويقولون إنها دوافع نفعية ومصلحية وليست نتاج إيمان هؤلاء ببرنامج الحزب أو سياساته، فمعظم من ينضمون للحزب – يتجاوز عددهم الآن 2 مليون شخص، بحسب إحصاءات الموقع الاليكترونى للحزب - يريدون الاحتماء بالسلطة من خلال عضويتهم بالحزب من مضايقات الجهاز البيروقراطى العتيق، أو الاستفادة منها فى "تسليك" مصالحهم والحصول على قطع أراض بغرض "تسقيعها" أو الاقتراب من المسئولين الكبار فى الحزب، أو البحث عن وظيفة أو فرصة عمل فى أى مكان بالنسبة للشباب، أو حتى مجرد الاستفادة من الرحلات الترفيهية التى ينظمها الحزب.
ونشرت إحدى الصحف الخاصة فى اليوم التالى لإضراب 6 أبريل الذى دعا إليه بعض شباب "الفيس بوك" العام قبل الماضى أن قوة من الشرطة فى احدى مدن الاقاليم استوقفت رجلا فى الشارع وقت الإضراب وطلبت منه الصعود إلى "البوكس" وورغم أن الرجل أقسم لهم أنه لاعلاقة له بالإضراب ولا يعرف شيئا عنه، وأنه موجه بالتربية والتعليم ولا يصح اقتياده لقسم البوليس بهذا الشكل المهين، إلا أنهم أصروا على اصطحابه معهم، وهناك واتته فكرة أن يبرز "كارنيه" عضويته بالحزب الوطنى للضابط، الذى ما كاد يطلع على "الكارنيه" حتى أفرج عنه على الفور.
أما ما يؤكد انتهازية كثير من المنضمين للحزب الحاكم، فهو ما يحكيه بعض من ذهبوا إلى مقاره المختلفة لملء استمارات عضوية لنفس الاسباب النفعية، وسمعوا كثيرين منهم يتبادلون رواية نكات سياسية تنتقد الحكومة ورموز السلطة، ويضحكون عليها من قلوبهم!.. وهذه هى طبيعة المصريين بشكل عام.. فأنت تسمع من الناس أحلى وأجرأ كلام فى الغرف المغلقة وعلى المقاهى وجلسات النميمة فى البيوت وأماكن العمل، وإذا جد الجد واحتاج الأمر للتعبير عن هذه الآراء بصراحة أمام كبير أو مسئول أو صاحب سلطة، فإن الأغلبية يلتزمون الصمت وتسمع الشعار المصرى الأثير "يا راجل خلينا نمشى جنب الحيط".
وهذا التناقض نفسه هو السبب فى زيادة توزيع بعض صحف المعارضة والصحف المستقلة، فالناس تريد من يشتم السلطة بدلا منها ومن "ينفس" غضبهم فيها دون أن تقع عليهم هم أية مسئولية.. بل ويتساءلون فى دهشة.. همه سايبين الناس دول يقولوا الكلام ده إزاى؟".. فالناس لا تزال لا تصدق أنك يمكن أن تقول كلمة حق أو تنتقد الحكومة أو السلطة وتظل سالما آمنا لا يتعرض إليك أحد.
والغريب أن وجود الصحف الخاصة والمحطات الفضائية التى تتناول القضايا العامة بجرأة، وتنتقد بدون سقف كبير أو حدود، لم يؤثر أو يغير فى كثير أو قليل من سلوك الرأى العام ولم يشجع الناس على المشاركة فى الحياة السياسية، وحتى الاعتصامات والاضرابات العمالية، التى زادت كثيرا خلال العامين الأخيرين لا تعبر هى الأخرى عن وعى جديد، ولا يطالب منظموها بإصلاحات جذرية، وهى لا تخرج فى الغالب عن مطالبات محدودة للغاية بزيادة علاوة أو رفع حوافز، دون أن يتطرق أصحابها الى المطالبة بتغيير أوضاع شركاتهم المنهارة، أو بإعادة النظر فى القواعد التى يتم على أساسها خصخصة شركات القطاع العام، أو يتساءلون عن المصير الذى تؤول إليه حصيلة الخصخصة، أو يطالبون بنظم أخرى للملكية غير الملكية الحكومية والبيع للقطاع الخاص، مثل طرح الشركات فى سوق الأسواق المالية وإعطاء أولوية للعاملين فيها لتملك اسهمها، أو غيرها من الحلول الاقتصادية العديدة التى أثبتت فعالياتها فى دول أخرى، بعد أن ثبت فشل طريقة وآليات الخصخصة فى مصر.
وهنا يبقى السؤال..إلى متى سيبتعد المصريون عن الخوض فى السياسة والشأن العام؟.. ولماذا لم يؤد ارتفاع نسبة المتعلمين وزيادة هامش حرية الصحافة المقروءة والمرئية فى تخليص الشعب من "الأنامالية" والسلبية الشديدة فى التعامل مع قضاياهم الحيوية.. وإلى متى سينتظرون أن تمن عليهم الدولة بالحرية.. وألم ينضجوا بعد لكى يصبحوا مؤهلين سياسيا للعيش فى مجتمع ديمقراطى كما قال رئيس الوزراء د.أحمد نظيف ذات مرة؟.. وأخيرا هل سينجح البرادعى فعلا فى تغيير واقعنا السياسى القاتم.. لا أظن!
• نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر